كتبت هديل فرفور في صحيفة “الأخبار”:
نحو ثلاثين موظفاً في قسم الصيانة في شركة «تاتش» يستعدّون لمباشرة العمل لدى شركة «باورتك» (powertech)، بموجب عقد موقّع بين الشركتين قضى بـ «إعارتهم» إياها بعدما التزمت أعمال صيانة محطّات البث في المناطق اللبنانية لقاء 13 مليون دولار سنوياً، على أن تُدفع رواتب الموظّفين من المال العام، لا من أموال الشركة التي ستجني أرباحاً بقيمة أربعة ملايين دولار. في هذا الوقت، يعيش هؤلاء حالياً حالة من الخوف، ناتجة من دفعهم إلى توقيع كتاب تنازل، يبرئ الشركة الجديدة من أي موجبات تجاههم، في ظلّ غموض يحيط آلية انتقالهم، بما يهدّد أمنهم الوظيفي
وقّع عدد من موظّفي قسم الصيانة في شركة «تاتش»، أول من أمس، كتاب «تنازل وإبراء» أعفَوا بموجبه شركة «باورتك»، من أية «أتعاب أو حقوق أخرى حالية أو لاحقة أو مطلب ينشأ عن التعاطي معها»، وذلك بعد أن وقّعت إدارة «تاتش»، في شباط الماضي، عقداً رضائياً مع «باورتك» بقيمة 13 مليون دولار أميركي، ينصّ على تلزيمها صيانة محطّات البثّ في مختلف الأراضي اللبنانية، التي سيقوم بها نحو 25 موظّفاً من قسم الصيانة في «تاتش»، على أن يتقاضوا رواتبهم من الأخيرة، لا من «باورتك».
بمعنى آخر، تنازلت «تاتش» عن إحدى وظائفها الرئيسية، التي تتقاضى عنها بدلات أتعاب من الدولة اللبنانية لمصلحة «باورتك». وأكثر من ذلك، أعارتها نحو 25 موظّفاً ذوي خبرة لإتمام هذه الوظيفة بنجاح، وهو ما سيسمح لها بتحقيق أرباح صافية بقيمة 4 ملايين دولار من المال العام سنوياً، ومن دون أن تتكبّد حتى عناء دفع رواتب الموظّفين التي تقدّر بنحو ثلاثة ملايين دولار(راجع «الأخبار»، 15 آذار 2019: ««تاتش» تلزّم صيانة محطات البثّ… بـ«إعارة» عمّالها للشركة المتعهّدة!»)
تُفيد المعلومات بأنّ غالبية الموظّفين تردّدوا كثيراً قبل توقيعهم الكتاب، «لكنّهم رضخوا في النهاية، بسبب إلحاح «باورتك» وإصرارها على ضرورة توقيع الكتاب قبل مباشرتهم بالعمل لديها»، على حدّ تعبير مصدر مُطّلع. أمّا سبب هذا التردّد، فيعود إلى الصيغة «المُريبة» التي نصّ عليها كتاب التنازل والإبراء.
شروط العقد
يتضمّن الكتاب تسعة بنود (وفق النسخة التي اطّلعت عليها «الأخبار») تتعلّق بإقرار الموظّف بتقديم خدمات الصيانة والدعم المباشر للشركة طوال المدة التي تحدّدها الأخيرة، والإقرار بطلب التعويض مقابل التعاطي مع «باورتك» بدلاً من شركة «تاتش»، والتنازل بصورة نهائية «لا تقبل الرجوع عنها ومن دون أية شروط» عن مباشرة أي إجراء قانوني للمطالبة بأية أتعاب أو تعويضات حالية أو لاحقة وتتصل بصورة مباشرة وغير مباشرة بالتعاطي مع «باورتك»، فضلاً عن تبرئة الأخيرة «بصورة نهائية لا تقبل الرجوع عنها ومن دون أية شروط من أي حقّ أو مطلب ينشأ عن أو يتصل بالتعاطي مع «باورتك» أو نشأ أو اتصل بهذا التعاطي».
وعلى الرغم من أن البنود 4 و5 و6 تنصّ على تقيّد الموظّف بتعليمات وطلبات وتوجيهات من «باورتك»، في ما يتعلّق بساعات ومواقع العمل التي تكون خدماته مطلوبة فيها، والتعهّد بتقديم طلبات الإجازات السنوية والمرضية بالتنسيق مع الشركة المذكورة والتزام القرارات الصادرة عنها في هذا المجال، بالإضافة إلى التعهّد بتأدية الواجبات بكل ضمير وحسن نية لحماية وصون معدّات الشركة (..)»، إلّا أنّ البند السابع ينصّ على التعهّد بعدم تقديم الموظّف لنفسه كـ«موظّف أو وكيل لـ«باورتك»، طوال مدة التعاطي مع الشركة وبعدها!».
ترهيب للموظّف وتنظيم لسرقة المال العام
عرضت «الأخبار» صيغة كتاب التنازل على عدد من الخبراء المعنيين. هؤلاء لفتوا إلى أنّ الكتاب يتجنّب الإفصاح علناً عن علاقة العمل التي ستربط الموظف بالشركة الجديدة، كاستخدام مصطلح «التعاطي» بدلاً من «العمل»، و«التعويض» عوضاً عن «الراتب». علماً أنّ هذا الكتاب يُعدّ حكماً، وفق هؤلاء، عقداً للعمل، ذلك أنّ ورود مسألة تنفيذ الموظف لتعليمات الشركة يجزم بوجود علاقة عمل (هناك قرارات صدرت عن محاكم أميركية لمصلحة سائقي «أوبر» استناداً إلى مسألة تنفيذ العمال أوامر الشركة).
إلى ذلك، ترد في الكتاب مسألة إقرار الموظف بالتنازل، «وهو دليل على وجود الحق. لأن التنازل لا يكون إلا لمن يمتلك حق الامتلاك». اللافت ورود مسألة التنازل عن المقاضاة القانونية، «وهو أمر يخالف الدستور والمعاهدات الدولية، لأن الحق في اللجوء إلى القضاء لا يمكن إسقاطه، وهو ما يُعرّض معدّ هذه الصيغة نفسه للملاحقة القضائية».
ينصّ الكتاب على ضرورة التزام الموظّف تعليمات الشركة التي انتقل إلى العمل فيها، ما يجعله حكماً بمثابة عقد عمل
الانطلاق من هذا «التشريح» يُعدّ ضرورياً للإشارة إلى أن هذه الصيغة، وفق الخبراء، تهدف إلى ترهيب الموظف لمنعه من الإفصاح فيما بعد عن أنه يعمل لدى الشركة، وبالتالي لتجنيب مطالبتها بأيٍّ من حقوقه، وملقياً المسؤولية على شركة «تاتش» التي ستدفع للموظف من مال وزارة الاتصالات. يختصر أحد هؤلاء تعليقه بالقول إن هذا الكتاب وسيلة لترهيب الموظّف ولتنظيم سرقة المال العام.
غموض في آليات العمل ومصير مبهم للعمال
ترى مصادر الموظّفين أنّ هذه الصيغة تخيف الموظّف لجهة «عدم وضوح آلية عمله. فهي من جهة تؤكّد ضرورة التزامه تعليمات الشركة التي انتقل للعمل لديها، وفي المقابل، تحظر عليه تعريف نفسه كموظّف لديها»، مُشيرةً إلى أن أي خلل بالاتفاق بين الشركة و«تاتش»، «قد نذهب فيها فرق عملة». وتُضيف المصادر نفسها أن «التشديد على مسألة التنازل عن أية تعويضات قد تترتّب عن العمل لدى الشركة الجديدة يثير الريبة، لأنه يوحي بتوجّه جدّي للتخلي عن الموظّفين في حال حصول أي مشكلة»، لافتةً إلى أن الموظّفين لم يرغبوا في التوقيع «إلّا أنهم لا يملكون خياراً آخر».
يردّ المدير العام لخدمات الاتصالات في شركة «باورتك» غابريال بو جبرايل في اتصال مع «الأخبار»، بالقول إنّ «الكتاب يأتي في سياق الحفاظ على عمل الموظّفين داخل «تاتش»، وبالتالي فإنّه (أي الكتاب) يحميهم»، موضحاً أنّ «انتقال العمّال إلى «باورتك» كان بديلاً من صرفهم من «تاتش».
ويلفت بو جبرايل إلى أن «الشركة تدفع رواتب الموظّفين لـ «تاتش» بموجب عقد مستقلّ آخر، غير عقد الاتفاق الرضائي الأساسي، فيما تدفع «تاتش» الرواتب للموظّفين، وبالتالي، الهدف من الكتاب هو التأكيد أن ليس لدى الموظّف الحق في مطالبتنا ما دمنا ندفع لتاتش شهرياً تكلفة الرواتب».
يُشكّك المصدر نفسه في هذا الكلام، معتبراً أنّ «الشفافية تستلزم من كلّ من تاتش و«باورتك» نشر العقد الأساسي والعقد الآخر إن وجد»، مشيراً إلى أن الاتفاق الرضائي «أعفى حكماً شركة «باورتك» من عبء الرواتب، وأن هذه الصيغ ليست إلّا محاولات للتملّص من تحميل الشركة بشكل مباشر مسؤولية الرواتب وتبعات التوظيف من تعويضات وضمانات وغيرها من الأمور المرتبطة بالأمان الوظيفي، فيما يسمح لها بمراكمة الأرباح من المال العام من دون أي مخاطر».
إلى ذلك، ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإنّ الموظّفين يمارسون حالياً ضغطاً داخل شركة «تاتش» لتدارك تداعيات توقيعهم المرتقبة عبر التنسيق مع نقابتهم والإدارة، معتبرين أن ذلك الكتاب بمثابة «التجنّي على حقوقهم، وهو برأيهم غير قانوني».
وأمام هذه المعطيات، يبقى مصير العمال مبهماً أمام أي نزاع محتمل بين الشركتين. فمن سيحمي هؤلاء حينها؟