تواجه فرنسا، اللاعب التاريخي في الشرق الأوسط، وضعاً غير مسبوق. بين المصالح التي عليها الدفاع عنها، الديناميات التي تتجاوزها والفرص المتاحة أمامها، أين هو دور فرنسا حالياً في منطقة الشرق الأوسط؟
في الواقع، لا يمكن فصل الشرق الأوسط كما نعرفه اليوم عن فرنسا. من إتفاقية سايكس-بيكو في 1916، إلى مؤتمر سان ريمو وصولاً إلى معاهدة سيفر في العام 1920، كلّها رسمت معالم الشرق الأوسط الحالية. بعد ذلك، أكمل انتهاء الحرب العالمية الثانية، والإستقلال الذي حصلت عليه مجموعة من الدول وولادة دولة إسرائيل، بناء منطقة الشرق الأوسط كما هي عليه اليوم.
في كلّ من هذه المراحل كانت فرنسا حاضرة، إن كان من خلال ديبلوماسييها، الذين كانوا يفاوضون على سايكس ـ بيكو، أو من خلال انتدابها على كلّ من سوريا ولبنان في العام 1918، أو من خلال خروجها من هذه الأراضي والروابط التي حافظت عليها. في إختصار، منذ نحو قرن، لطالما كان لفرنسا ثقلها في اللعبة الجيوسياسية في الشرق الأوسط. مع ذلك، تغيّر الوضع بقدر كبير في العام 2019 تاركاً فرنسا عند مفترق طرق من الإحتمالات في المنطقة.
في البداية، ما هي الحال الحقيقية لمكانة فرنسا في الشرق الأوسط؟
قبل كل شيء، فرنسا موجودة في الشرق الأوسط من خلال 140 ألف مواطن يعيشون في المنطقة. تلي ذلك شبكة واسعة من السفارات، القنصليات، المدارس الفرنسية والشراكات الجامعية وغيرها.
تعدّ فرنسا أيضاً لاعباً ثقافياً مهمّاً في المنطقة، ويشهد على ذلك ترخيص متحف «اللوفر» في أبو ظبي أو امتلاك قطر نادي باريس سان جيرمان الفرنسي. أخيراً وخصوصاً، فرنسا لاعب إقتصادي مهمّ أيضاً في الشرق الأوسط. هي تستثمر من خلال الشركات الفرنسية بنحو كامل قطاعات الطاقة (مع «توتال» على وجه الخصوص) والسلاح (مجموعة داسو ونافال غروب) والصحة (مجال صناعة الأدوية).
أخيراً، حتّى ولو بإقبال آخذ في الانحفاض، تبقى فرنسا منخرطة جداً في مكافحة الإرهاب والمتطرّفين في المنطقة. تحاول الدولة الفرنسيّة نقل جهودها تدريجاً إلى خارج منطقة الشرق الأوسط (خصوصاً نحو الساحل).
ولكن على رغم من هذا الحضور المهم، لم تعد فرنسا لاعباً رئيساً في المنطقة.
في الواقع، فرنسا مقيّدة في تصرفاتها بديناميات ليس لها سيطرة تذكر عليها. لنأخذ أمثلة عدّة، بدءًا من انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (الإتفاق النووي الإيراني) في 8 أيار 2018. خططت فرنسا، بعد توقيع الاتفاقية عام 2015، لتصبح لاعبًا رئيسيًا في أسواق البنى التحتية والصناعة الإيرانية، لكن منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية، لم يكن أمام الشركات الفرنسية خيار سوى الإمتثال لقاعدة خارج الحدود، وبالتالي وقف كل عملياتها في إيران. خسرت كل من «رينو- نيسان»، «إيرباص»، «أكور» وحتّى «توتال» تعهدات بمليارات الدولارات. احتجّت فرنسا، وكذلك الدول الأخرى الشريكة مراراً، لكنّها لا تمتلك أي تأثير فعلي على تموضع الولايات المتحدة.
أما المثل الثاني، فهو علاقة فرنسا مع هجمات الأسلحة الكيماوية التي شنّها نظام بشار الأسد منذ العام 2013. تُحمِّل التقارير المشتركة بين منظمة الأمم المتحدة (من خلال آلية التحقيق المشتركة) ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية OPCW، مسؤولية لا يمكن إنكارها على الجيش السوري في الهجمات على الغوطة (2013)، تلمنس (2014)، قميناس (2015) وسرمين (2016).
في عام 2013، قال فرنسوا هولاند، رئيس الجمهورية آنذاك، إنّ فرنسا على استعداد «لمعاقبة الذين اتخذوا القرار السيئ بقتل الأبرياء»، بينما كانت الولايات المتحدة الأميركية تتحدّث عن الهجمات الكيماوية وكأنّها «خط أحمر» لا يمكن تخطّيه أبداً. في النتيجة، لم يمتثل نظام الأسد لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 2118 (الذي ينص على تفكيك ترسانته الكيماوية)، لا بل أعاد الكرّة أكثر من مرّة.
حاولت فرنسا، في شباط 2017، إصدار قرار يتضمن عقوبات دولية قوية (مثل تلك التي فُرضت على إيران) على أحد عشر مسؤولًا وعشر منظمات سوريّة، لكنّها واجهت الفيتو الصيني- الروسي المزدوج.
في هذا الملف، تجد فرنسا نفسها مكبّلة تمامًا في عملها بسبب التنافس الروسي- الأميركي للسيطرة على النفوذ في الشرق الأوسط.
أمّا المثل الثالث، فهو القضية الشائكة للعلاقات مع المملكة العربية السعودية، نظراً لتدخلها في اليمن. وفرنسا ترتبط بهذا الملف من خلال عقود الأسلحة الضخمة الموقّعة مع السعودية في السنوات الأخيرة (يبلغ إجمالي العقود الموقعة في العام 2018 نحو 18 مليار دولار).هذه المرة، التزامات فرنسا التجارية تمنعها من اتخاذ قرارات ملموسة في الشرق الأوسط.
وبالتالي، لم تعد فرنسا وحدها قادرة على التأثير على نطاق واسع في منطقة الشرق الأوسط، غير أنها ما زالت تُعتبر شريكاً استراتيجياً مهماً بالنسبة إلى عدد من البلدان العربية.
في الواقع، إن أهمية فرنسا الإقتصادية على المستوى العالمي، فضلاً عن مكانتها الفريدة على الساحة الدولية تجعلان منها شريكاً قيّماً للغاية بالنسبة إلى الدول في منطقة الشرق. كذلك، يُشكّل مؤتمر CEDRE، الذي انعقد في أيار 2018 تحت رعاية الدولة الفرنسية، منفذاً للبنان في ظل الأوضاع الإقتصادية المتوترة التي يعاني منها. في النهاية، تمّ جَمع نحو 11 مليار دولار (على شكل منح وقروض بفوائد منخفضة) وخطة استثمار وإصلاح وضعها رئيس الحكومة سعد الحريري. يتماشى هذا المؤتمر مع مؤتمرات باريس الأول والثاني والثالث من عهد شيراك – رفيق الحريري.
من خلال الالتزامات التي حصلت عليها بفضل هذا المؤتمر الذي استضافته، منحت فرنسا الأمل للبنان، في الحصول على ضمانات ماليّة واقتصاديّة، إضافة إلى فرصة ملموسة لإصلاح مشكلاته الهيكلية، مثل العجز في الموازنة أو في إدارة الكهرباء (تحت طائلة فقدان الحصول على الأموال المذكورة أعلاه).
كذلك، على الساحة الديبلوماسية، تُعتبر فرنسا مساعداً عظيماً لا يستطيع بعض دول الشرق الأوسط الاستغناء عنه، وتشهد إيران على ذلك.
منذ انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، كانت إيران تناشد باستمرار الدول الأوروبية المُوقّعة عليها (أي المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي) لإنقاذ الاتفاقية؛ لذلك، زار إيمانويل بون، المستشار الديبلوماسي لإيمانويل ماكرون، طهران في تموز الجاري. وقابل الرئيس الإيراني حسن روحاني وقدّم له رسالة كتبها الرئيس الفرنسي.
أخيراً، تُعتبر فرنسا الشريك المُفضّل لدى الدول التي ترغب في تنويع إقتصادها وتغيير صورتها على الساحة الدولية. والدليل على ذلك، سياسة قطر الاقتصادية، بعد إعادة شراء «باريس سان جرمان» من صندوق قطر للإستثمارات الدولية. فالإبتعاد عن الإعتماد على النفط من خلال الإستثمار في مجال الرياضة والإعلام الغربي (BeIn Sports) يُعتبر استراتيجية فعّالة للإمارة. إضافة إلى ذلك، تعزّز حملات باريس سان جرمان الدعائية في الدوحة الإمكانات السياحية للإمارة، التي تنظر إلى استقطاب السيّاح الغربيين.
إضافة إلى ذلك، سمح افتتاح متحف اللوفر، لمحمد بن زايد بأن يقدّم صورة جميلة لبلده، ولكن غير صورة دبي الرائعة. فهدف الإمارات العربية المتحدة من افتتاحها لأكبر متحف في العالم هو إعطاء بُعد جديد لتأثيرها الثقافي من خلال إظهار الليبرالية الثقافية غير المألوفة في هذه المنطقة. ولتحقيق ذلك هل أفضل من التعاون مع فرنسا؟
تاريخياً، لعبت فرنسا دوراً أساسياً مع المملكة المتحدة في تركيب الشرقين الأدنى والأوسط اللذين نعرفهما حالياً. ومع ذلك، فرنسا اليوم لاعب ثانوي، عالقةً بين نزاع قوى أكبر منها، ما يحدّ من قدرتها على التحرّك. لكن، لا تزال فرنسا شريكاً إقتصادياً ديبلوماسياً ثقافياً واستراتيجياً أساسياً لعدد من الدول في الشرق الأوسط. وبالتالي، أصبح دورها محدوداً أكثر مما مضى، لكن أكثر استراتيجية من ذي قبل، وخصوصاً في الشرق الأوسط، حيث تلعب دوراً أساسياً، لكن فقط في بعض الملفات، لأن الرغبة في أن تكون على كل الطاولات في هذه المنطقة المليئة بالتحدّيات ستكون غير مُجدية، غير ملائمة وفي النهاية، لا فائدة منها.