إعتادت الشّعوب القديمة أن تتعاطى مع المصائب والنّوائب على أنّها رسائل من الخالق، وتجد لها تفسيرات غيبيّة لكي ترفع مسؤوليّتها عنها، وتنفض يديها من تداعياتها السّالبة. وامتدّت هذه العادة عبر الزّمن، وأصبحت تقليداً يلجأ إليه مَن يريدون غسل أيديهم ممّا يحصل، فيُحيلوه على “الغامض” وهي حال المسؤولين عندنا، الذين استحالوا مؤسّسة تسليم للغيب، محاوِلين التملّص الذكيّ ممّا يتخبّط فيه النّاس من بَلايا. لكنّهم لم يتنبّهوا الى تطوّر أدوات التفكير التي حتّمت التّصادم بين التفسير الخُرافي للظواهر وبين التفسيرالعلمي والعقلي لها، ما كشف رياءهم و “خَرَفهم”.
لا يستلزم واقعنا الحالي كبير العناء للتدليل على أنّ ما يحصل ليس من باب الأسطورة، بل هو احتقان حقيقيّ مرعِب، وإرثٌ لممارسات خدّاعة مُمَوَّلة بشعارات زائفة. والمتربّعون على رؤوس الناس، والذين هم على مَساس مباشر مع الأزمة، يمارسون التصريحات التّخديريّة التي يتذكّرها الناس بحسرة، لأنّها تمرّ من دون حساب، فهي كذبٌ مُقَنّع وصَفَقة لامتصاص النّقمة وتكميم الأفواه. فمَن غيرهم له ذراع طويلة تحت جلد السّلطة؟ أوليسوا تلك الخلطة الفاسدة من أهل كهف الإستئثار والغُرف المغلقة والتحريض، هذه الخلطة المُنجَزة والتي جعلت البلاد في حالة سيولة عموميّة متهالكة، قلّصت مساحة الثّقة حتى بين المواطن ونفسه؟ من هنا، بات ضروريّاً طلب سَنّ قانون يجرّم التّلاعب بالمصائر.
على أرض الواقع تَحَسّن ملموس في فساد المسؤولين الذين عرقلوا الحلول الفنيّة بالحلول السياسية، والذين حصلوا على دعم كامل من التّوتير لإلهاء الناس عمّا يقترفون بحقّهم. وقد أَسّس هؤلاء الأشباه الطّارئون لإستراتيجيّة القهر والإجحاف تحت عباءة الإصلاح المنشود، ومارسوا الحكم الذي افتقر الى أبسط معايير الحكم، وبسطوا سلطانهم على مفاصل الدولة بالقوّة ، وعاموا فوق ثروات من مشاريع مشبوهة امتصّت تعب الناس. والأدهى أنّ بعض هؤلاء الناس سلّم رقبته الى سلوكيّة الخلل وشكّل وقاية مجّانيّة لثقافة الفساد، وقابل بالتشنّج كلّ وقفة نقديّة، وحصّن سياسة الإطباق على الدولة التي باتت ذّبيحة مُدنَّسة.
إنّ سقطة الوطن التراجيدية ليست جبريّة أو بمشيئة تفوق إرادة البشر، فالسيّئات ليست مُقدَّرة أو مفاجِئة، ووقوع الأحداث ليس رؤية ضيّقة بل من صنع الناس ومسؤوليّتهم. والسّقطة التي لها مُسبّبات و”أبطال”، أقلقت البناء الكياني إذ ختمت بفعلها التدميري العنيف أَيَّ أمل بعدم الوقوع في الفوضى. وبقدر ما يكون رصيد هذه الفوضى كبيراً، بقدر ما ينتشي السّاعون إليها كغُراب فوق جيفة وطن.
ومن حقّ الناس المُعلَّقين على وَتر فوق هاوية، أن يشعروا بالخوف. فالخوف ليس مُتخيَّلاً، بل هو انعكاس لبشاعة الحقيقة التي افتعلها رجال المسؤوليّة بسمسرات متنوّعة وبأذرع أخطبوطيّة ومن دون ندم. هؤلاء المقنَّعون بالعفّة والمعتصِمون بِشَملة الفضيلة، الواعدون بالأعياد، قد نحروا سمعة الوطن بتظاهرة مُعيبة من عجزٍ وعطلٍ وحقدٍ وفسادٍ وسوء إدارة، داست وجع الناس وسَمَّرتهم على فُوّهة فتنة وعلى البَشِع من الظّنون وهذه أقلّ ما يتوفّر من مادة اتّهامٍ لاستحضار “الباشا” وتعليق المشانق.