كتبت رلى موفّق في جريدة “اللواء”:
يذهب حلفاء النائب طلال أرسلان إلى محاولة تسويق حادثة قبرشمون – البساتين على أنها مشكلة درزية – درزية، وكأنها مفصولة عن سياق ما سبقها من أحداث وتراكمات لمنطق الاستفزاز والاستعلاء الذي مارسه رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل حيال الجبل، والموقع السياسي والتاريخي الذي تشكله المختارة وزعيمها وليد جنبلاط في المعادلة اللبنانية، وكأنها ليست حصيلة طبيعية لحالة الاحتقان الذي انفجر نتيجة تلك الزيارة – التحدي إلى الجبل، والتي في محطتها الأولى في الكحالة نكأ الجراح بين المسيحيين والدروز, ونبش القبور في ذاك الأحد المشؤوم.
في اللعبة السياسية، يُشكِّل أرسلان لباسيل و«حزب الله» حصان طروادة لاختراق الجبل. حليف درزي لا يُشكّل وزناً في الثقل السياسي للجبل يتم رفعه بكل الوسائل، تارة عبر خلق كتلة نيابية له، وطوراً عبر ابتداع تحالف ضعفاء علّهم يصبحون أقوياء، لتتم عملية الاختراق والتمدد والقضم التدريجي، حتى لو اقتضى الأمر خلق فتن في «البيت الواحد» ما دام هناك مَن يتبرّع بالقيام بها بدماء الدروز، وتقديمهم قرباناً على مسرح الحسابات الصغيرة والشخصية والمشاريع الكبيرة والمحاور السياسية في الصراع القائم في المنطقة والحرب المفتوحة بين إيران والولايات المتحدة.
ما كان أرسلان، بحجمه السياسي، قادراً على فعل ما يفعله من تشبث بإحالة حادثة قبرشمون إلى المجلس العدلي كشرط لانعقاد مجلس الوزراء لو لم يكن باسيل، المُصاب بانتكاسة سياسية في الجبل ثم في طرابلس، خلفه. ما لا يستطيع باسيل فعله نظراً إلى دقة الوضع، والخوف من السقوط في محظور الحرب الأهلية المسيحية – الدرزية مجدداً، يفعله أرسلان الذي يُلوِّح بأنه لا يهاب حرباً درزية – درزية من باب الثأر.
كثير من المراقبين يرغبون في الفصل بين باسيل والعهد، لكن هذا الفصل غير واضح المعالم. في القراءة أن صهر «الرئيس القوي» ما كان قادراً على ممارسة هذا القدر من الاستقواء لو لم يكن يتّكئ على الموازين السياسية في البلاد التي أفرزها قانون الانتخابات النيابية بعد التسوية الرئاسية التي جاءت واقعاً بمرشح «حزب الله» ميشال عون إلى سدّة الرئاسة، بعدما نجح الاثنان في تعطيل النصاب لجلسة انتخاب الرئيس لسنتين ونصف السنة، وأعادت الزعيم الأبرز لدى السنّة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. هوسه في وراثة عمِّه في موقع رئاسة الجمهورية دفعه إلى تجاوز الخطوط الحمر في الأخلاقيات السياسية واستخدام الغرائز والتحري واستحضار مفردات زمن الحرب من أجل شعبوية في بيئته، يعتقد أنها تجعله رقماً صعباً على الساحة المسيحية لا يمكن لأحد آخر مجاراته فيها، أو اللحاق به.
حتى في الاستعارة التاريخية لدور الرئيس كميل شمعون في مواجهة كمال جنبلاط، ومحاولة استنساخ تلك التجربة، فإنها لا تستقيم من دون رافعة سياسية. في الماضي شكّلها حلف بغداد، أما اليوم فتُشكّلها حارة حريك ضمن مشروع لا يخفي رئيس الجمهورية انحيازه إليه، وهو مشروع «تحالف الأقليات»، حيث ذهب إلى موسكو طالباً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حماية المسيحيين في لبنان والشرق، بمشروع يبدأ من حارة حريك ويمر في دمشق بحلم بقاء السلطة بيد العلويين سالكاً طريق بغداد، الواقعة تحت القبضة الشيعية السياسية، وصولاً إلى طهران «بيت القصيد».
فمقولة «حزب الله» أنه يقف خلف حلفائه مقولة صالحة ما دامت تخدم مشروعه وأجندته. تمسكه بـ «اللقاء التشاوري» الذي يجمع النواب السنّة المنتميين إلى «8 آذار» كان ترجمة لما يعتبره انتصاراً سياسياً حققه في الانتخابات النيابية من خلال نجاحه في اختراق كبير للطائفة السنيّة عبر حلفائه الذين خرجوا من البرلمان منذ 2005 وما كانوا ليستطيعوا العودة من دون قانون الانتخاب الجديد، وبالتالي عدم تمثيل هؤلاء في السلطة التنفيذية كان «الحزب» يعتبره ضرباً لهذا «الانتصار» أولاً، وإضعافاً لهؤلاء الحلفاء أمام جمهورهم ثانياً. القول إن تلك المقولة تنطبق على أرسلان تصح إلى حدود ألاّ تكون متعارضة مع أولوية أجندته. في الأولويات التي يحاضر بها، يأتي الاستقرار الداخلي وانتظام عمل الحكومة لمعالجة التحديات الاقتصادية والمالية. تلك الأولوية يعطي لصيقون بـ «الحزب» أدلة عليها هي تصويته مع الموازنة «اللاشعبية». ويستندون إلى تأكيد أمينه العام حسن نصر الله على دعمه للحكومة وحسم مسألة تمسكه ببقاء الحريري رئيساً لها.
لكن نصر الله بكلامه عن الحكومة وبقاء رئيسها, وبتبنيه في إطلالته بذكرى حرب 2006 لمطلب أرسلان بالمجلس العدلي، ونظرية محاولة اغتيال وزير في الحكومة وذهابه بعيداً في الهجوم على جنبلاط، أراد إيصال رسائل في غير اتجاه، منها ما هو داخلي ومنها ما هو فوق لبناني. يهوى اللصيقون بـ «حزب الله» اعتبار أن صيرورة الأحداث فرضت نفسها على المشهد، لكن الواقع أن كلاً من الحلفاء على محور دمشق – طهران أراد توظيف حادثة قبرشمون إلى الحد الأقصى، ولكل من هؤلاء أهدافه.
المهم في هذا السياق، ما يريده «حزب الله». أرسلان المتهاوي في بيئته لا يمكنه تحمّل مزيدٍ من الخسائر بعدما رفع السقف عالياً بشرط المجلس الأعلى، وباسيل ومِن ورائه العهد غير قادرين على تحمّل مفاعيل الانتكاسة بعد الاندفاعة، و«حزب الله» يعتبر أن خروج جنبلاط منتصراً من هذه المواجهة سيعطيه مساحة أوسع في الخيارات السياسية في لحظة تشكّل الإقليم بين خيارات انتماء الجماعات إلى البعد العربي أو الانخراط في تحالف الأقليات. فحين يُعبِّد جنبلاط الطريق من جبل الدروز إلى جبل لبنان صوب الحاضنة العربية والهوية العربية بديلاً عن الهوية الدرزية الأقلوية، وحين تُشرع الأبواب أمام نسج علاقات أوسع عربياً ودولياً في لحظة الحصار على الآخرين، يصبح المطلوب محاصرته بغية تطويقه وجعله يدفع ثمناً سياسياً. الحديث اليوم في الكواليس يدور حول الثمن الذي لا بد من أن يدفعه جنبلاط.
في حصيلة الحسابات الراهنة، فإن عملية كسر جنبلاط غير ممكنة، ذلك أن مشروعيته السياسية ليست منحة يمكن سحبها إذا ما أرتأى ذلك هذا الفريق أو ذاك. هو جزء من زعامة تاريخية ترتبط بوجود لبنان وتكوينه ومساره وصيرورته، واللعب بهذه المعادلة هو مغامرة محفوفة بالمخاطر على الجميع!.