IMLebanon

حين يرتدّ السؤال على صاحبه: وليد جنبلاط إلى أين؟

كتبت غادة حلاوي في صحيفة “نداء الوطن”:

يسجّل لرئيس “الاشتراكي” وليد جنبلاط تربّعه على زعامة فريدة من نوعها في لبنان، فهي ليست دينية لكنها تكاد تلامس القدسية لدى مناصريه. وهي الأطول زمناً، يضاهي بها أقرانه القلّة في لبنان. أما تقلّبات تحالفاته فلا تغيّر شيئاً من ثابتين رافقاه في حياته: الولاء الذي يحظى به من أتباعه من دون تردّد أو مساءلة له إلى أين ستودي هذه الطريق التي يبدو اليوم أنها أكثر تشعباً من ذي قبل. الثابت الثاني هو القلق الذي توارثه عن العائلة الجنبلاطية التي خبرت السيف والقتل لزعمائها منذ قرون.

يوم استشهد كمال جنبلاط حضر أحد أبرز مشايخ البياضة الشيخ أبو مصلح يوصي الابن المفجوع بموت أبيه بوصية من ثلاثة بنود:

1 – الزعامة مكلفة، وانتم آل جنبلاط خلقتم لكي تتزعموا وتُقتلوا.

2 – لم تخلقوا لتأخذوا بالثأر، وإذا أردنا أن نثأر فلا نرى رأساً يوازي رأس كمال جنبلاط كي نثأر منه.

3 – من قتل كمال جنبلاط لا يناسبنا معرفته، مصلحتنا ألا نعرفه.

ربما حفرت هذه الكلمات عميقاً في فكر وليد جنبلاط الذي أحيط يومذاك برعاية سياسية محلية هدفها “منع الإجهاز على دار المختارة وإلغاء آل جنبلاط”. حظي الابن برعاية الرجالات الكبار من أصدقاء والده مجيد ارسلان وشيخ العقل محمد أبو شقرا، فضلاً عن إحاطة خاصة من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. يومها قارب السياسيون الوضع من باب: مَن البديل عن وليد جنبلاط؟ لم يكن ثمة زعيم درزي يقابل جنبلاط، وكانت خشية الجميع من دخول اسرائيل على الخط للتأثير على دروز لبنان من خلال دروز اسرائيل. رأى الابن أن مصلحة الطائفة في تجاوز دم أبيه. سامح ولم ينس، وما الوردة الحمراء التي يحرص على وضعها صبيحة كل سادس عشر من آذار على ضريح والده إلا كي تكون ذكرى للآخرين ورسالة بأن الثأر لم يؤخذ بعد، ولو أن المعروف عن طائفة الموحدين أنها طائفة لا تعيش على الثأر بدليل حرص الأفرقاء المتخاصمين اليوم على تحييد المواجهة السياسية عن لغة الدم.

إستهداف مباشر

كان الخطأ التاريخي لمعظم من تناوب على الحكم في لبنان تعاطيهم مع أي مشكلة في الجبل على أنها درزية داخلية وليست ذات أبعاد لبنانية. واليوم يعاد السيناريو ذاته من قبل السياسيين الذين يتعاطون مع قضية قبرشمون وكأنها قضية درزية -درزية يمكن لكل طرف ان يقتص من خلالها من خصمه، عوضاً عن التعامل معها كقضية لبنانية.

ولكن اعتاد جنبلاط أن يصمد وفق مقربين: “رحلته وعمره السياسي لم يكونا نزهة جميلة خصوصاً في بلد مثل لبنان حيث التعقيدات والتحديات وبينها الوجودية أحياناً”. يذكرون لجنبلاط مواقف عديدة أثبت فيها حرصه على التعددية في الجبل مثل قراره ترك المقعد النيابي الدرزي شاغراً لأرسلان. ويؤكدون أنه لا يتوسّل الدم لتأجيج الصراع ويرفض نقل هذا الصراع من صراع سياسي الى تلاعب بالشارع. قدّم جنبلاط تنازلات وفق فريقه يوم اتفق مع الرئيس ميشال عون بشأن قضية الشويفات، وهو اتفاق لم ينفذ بعد ولم يسلّم أرسلان المطلوبين للعدالة. في المقابل يريدون الذهاب بحادثة قبرشمون الى المجلس العدلي قبل تسليم المشتبه فيهم ويشترطون التحقيق معهم واطلاق سراحهم. إنه إذاً الاستهداف بعينه.

الرهانات الخاسرة

يشعر وليد جنبلاط بأنه مطوّق، وهي ليست المرة الأولى. تراكمت خساراته بدءاً من خسارة والده إلى الخسارة الكبرى لمشروع 14 آذار، وصولاً إلى الرهان على “الحراك السوري” ومن بعده الرهان المحبط على دول الخليج .

مع كل ما سلف، لم تتطابق حسابات الحقل السياسي مع حسابات البيدر لدى الزعيم الدرزي الذي لطالما اعتبر أن العمق الأساسي للدروز هو العرب، فإذا بهم يخسرون في مواجهة اسرائيل ثم في مواجهة إيران، وقد سقطت أنظمة وتغيرت إلى…الأسوأ.

وبما أن لبنان غير قادر على أن ينأى بنفسه عن تداعيات كل تلك الأحداث مجتمعة، بدأت مسيرة الخسارات تتوالى منذ لحظة السين- سين لتكرّ بعدها سبحة التنازلات لنصل الى التسوية وتجلياتها الداخلية التي حصلت بتاريخ 31 تشرين 2016 يوم انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. عرف جنبلاط حينها انه بات مقيّداً بفعل موازين قوى جديدة. وعلى مضض سار بالتسوية مبدياً إيجابية لم يقابَل بمثلها “همّشوه وأشعلوا ساحته الدرزية الداخلية”.

حصار تلو الحصار

بدأ جنبلاط يشعر بأن الحصار يدنو، وأخذ يحصي محطاته، حصار عبّر عنه يوم قال لرئيس الحكومة سعد الحريري بعد تشكيل الحكومة “ماذا فعلت بالطائف يا سعد الحريري؟”، وحصار سياسي تجلى في حلف الحريري والوزير جبران باسيل، وحصار مالي، ثم حصار عسكري كان بدأ مع الأحداث الأمنية التي بدأت في اكثر من منطقة في الجبل لتنفجر في البساتين وقبلها إشكال الشويفات.

يؤمن جنبلاط بما لا يدع مجالاً للشك في قاموسه أن هذه الأحداث يراد لها أن تشكل مدخلاً لتعجيزه أو تعريته. ظنّ خصومه أنه في لحظة ضعف يمكن الانقضاض عليه، فهل نجحوا في ذلك؟

ليس النجاح محسوماً لأكثر من دليل. هناك أولاً تضامن الشارع الدرزي معه والذي أعاد الفرز السياسي في البلد بين فريق معه (رئيس مجلس النواب نبيه بري والحريري والقوات والمردة ) وفريق ضده. يبدو جنبلاط وعلى عكس التوقعات مرتاحاً على وضعه، وصلته الرسالة فكان جوابه: إذا أردتموها معركة فمستعد أنا للحرب.

القطبة المخفيّة

خلال اجتماع مجلس قيادة “الاشتراكي”، الذي جرى فيه عرض الأوضاع التي وصلت اليها الاتصالات بخصوص قبرشمون، عرض جنبلاط نتائج زيارة أرسلان إلى بري والتي تمثلت برفض أرسلان عرضاً من أربعة حلول أولها تسليم المطلوبين وإحالتهم للتحقيق، وإذا ثبتت الحاجة إلى المجلس العدلي يحيل مجلس الوزراء القضية إليه، وتجري المصالحة. هذا الرفض عزّز مخاوف جنبلاط من وجود قطبة مخفية، خصوصاً وأنه يدرك أن هناك ضغوطات قد تمارس لتصويت بري، حليفه الدائم، مع المجلس العدلي أو الامتناع عن التصويت، فتكون النتيجة 15 مقابل 12. تبرز الخشية عندها من أن يجري احتساب 15 من أساس المصوّتين وليس من أساس عدد الوزراء أي أن القرار يعتبر نافذاً.

وخلال هذا الاجتماع اتصل جنبلاط برئيس المجلس ليؤكد له السير معه ورفض المجلس العدلي. كما تلقى خلال الاجتماع نفسه اتصالاً كان الرابع في غضون ساعات من الحريري يبلغه الوقوف معه “ظالماً أو مظلوماً”.

جنبلاط إلى أين؟ سؤال يرتدّ على الزعيم في أعقاب كل استحقاق صعب يعترض مسيرته السياسية والحزبية. والإجابة يجدها المقرّبون منه في كلّ تجاربه السابقة: سوف يصمد.