في بلد المفاجآت، يكفي بند واحد في موازنة العام 2019 تأخر صدورها أكثر من عام كامل بفعل تصفية الحسابات السياسية، ليشعل اشتباكا جديدا ويمعن في حشر الحكومة وسائر المؤسسات الدستورية في زاوية المناكفات والكيديات السياسية التي حفظها اللبنانيون عن ظهر قلب.
وفي أحدث هذه السجالات ذاك الذي ينذر بانفجار سياسي كبير يضع فريق رئيس الجمهورية ميشال عون، لاسيما منه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، في مواجهة مفتوحة مع الغالبية الساحقة من المكونات المشاركة في التسوية الرئاسية، على خلفية المادة 80، الخاصة بحفظ حقوق الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية لدخول القطاع العام.
ذلك أن رئيس التيار، وتحت وتر شعار “استعادة حقوق المسيحيين” في عهد الرئيس القوي بوصفه الممثل الأقوى في مكونه، يعارض هذا البند، ويوقف المسار الذي كان من المفترض أن تسلكه الموازنة التي يريدها العهد إنجازا يدونه في سجله في سبيل طمأنة المانحين في “سيدر”، على اعتبار أن البند 80 لا يراعي المناصفة الاسلامية – المسيحية التي ينص عليها. موقف اعتراضي تلقفه رئيس الجمهورية برفض التوقيع على الموازنة.
وإذا كانت البلاد عالقة أمام هذا المشهد على حبال الخيارات التي قد يركن إليها عون لفك هذا اللغم الذي انفجر في وجه الجميع من حيث لا يدرون، فإن الأهم يكمن بالتأكيد أن هذه المعركة ستكون فتيل جولة جديدة من السجالات “النقالة” بين عين التينة وثنائي بعبدا – ميرنا الشالوحي. بدليل أن نوابا من التيار الوطني الحر يؤكدون أن في خلال مناقشة الموازنة في الهيئة العامة، تم الاتفاق على شطب المادة موضع السجال من القانون، ما يعني أن أي تصويت لم يحصل في شأنها، على ما تؤكد مصادر تكتل بلبنان القوي لـ”المركزية”، كاشفة أن هذا الاتفاق لم ينزل بردا وسلاما على أوساط رئيس المجلس، وهو ما يفسر الكلام الذي نسمعه عن تصويت خضعت له المادة 80.
وفي ما يخص عودة التوتر في العلاقات مع بري، تفضل المصادر رمي الكرة في ملعب رئيس الجمهورية، وانتظار ما سيقرره في شأن الموازنة التي لا يزال قطارها متوقفا عند محطة القصر الجمهوري، ليبنى على الشيء مقتضاه، علما أن لا مصلحة لأحد في الغوص في سجالات سياسية في غير مكانها.
أمام المشهد المعقد، لا يجد بعض المراقبين مخرجا أفضل من نشر محاضر جلسات مناقشة الموازنة من باب قانون الحق في الوصول إلى المعلومات. غير أن مصادر عليمة أوضحت لـ”المركزية” أن محاضر الجلسات ليست وثائق يمكن نشرها ليطلع عليها الرأي العام. إلا أنها أشارت إلى أن في استطاعة أي نائب الحصول عليها إذا طلبها للاطلاع الشخصي.
ولفتت المصادر نفسها إلى أن جلسات مناقشة الموازنة كانت منقولة مباشرة عبر شاشات التلفزة، ما يعني أن في إمكان من يرغب في الاطلاع على مجرياتها طلب الحصول على التسجيل من وسائل الاعلام، علما أن عددا من الصحافيين كان حاضرا وشهد مجريات الجلسة.
على أي حال، فإن ما يجري حول المادة 80 من الموازنة يتجاوز الزكزكات السياسية المعتادة ليبلغ خطوطا حمرا ساد اعتقاد بأنها باتت من المسلمات، كالميثاق والمناصفة والنظام السياسي.
وفي تعليق على هذه الأزمة الطارئة، اعتبر الوزير السابق زياد بارود، عبر “المركزية”، أنه “يجب العودة إلى أساس المشكلة بطرح السؤال الآتي: هل الموازنة المكان الصحيح لتعديل قوانين الموظفين؟”. وأوضح أن “هذا السجال هو المثال الأهم إلى ما يسمى فرسان الموازنة (أي النقاط التي يمكن ضمها إلى الموازنة من دون أن تكون لها علاقة مباشرة بها) وإلى ما يمكن أن يؤدي إليه هذا الأسلوب من نتائج سلبية”، مشددا على “أنني لست ضد صون الحقوق ولا ضد الذين فازوا في مباريات مجلس الخدمة المدنية، لكنني مع استقرار القوانين. لذلك، فليعدل قانون الموظفين وتلغَ مهلة السنتين لصلاحية المباراة، ويكون التعديل جزءا من القانون المستقل الخاص بهذه المسائل”.
وفي ما يخص الكلام عن أن الدستور ينص على احترام المناصفة في وظائف الفئة الأولى حصرا، أشار إلى أن “لو لم نعتمد منطق فرسان الموازنة لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم”، معتبرا أن “الجدل القائم حول المناصفة سياسي أكثر من كونه في الدستور، والميثاقية في السياسة أكثر ما هي في الدستور”، مذكرا بأن هذه المسألة تخضع لمجلس الوزراء الغائب اليوم عن السمع، بوصفه المعني ببت التعيينات.
واعتبر “أننا أمام محطة من محطات أزمة النظام، ولا مبالغة في هذا الاستنتاج، لأنه نظام يؤدي إلى عرقلة كل شيء تحت عناوين تصل إلى حدود المبدئيات والأساسيات في هذا النظام نفسه. بدليل أن تعيين ناجحين في مجلس الخدمة المدنية يفتح الباب على طرح إشكالية دستورية المناصفة”.
وإذ أسف لـ”غياب المرجعية القادرة على حسم الجدل”، اعتبر أن “بالنظر إلى الطابع السياسي للملف، فإن المعالجة يجب أن تتم في مجلسي النواب والوزراء”، معتبرا أن “في النهاية سيخضع الأمر للتسويات السياسية المعتادة”.
وأوضح أن رئيس الجمهورية أمام واحد من ثلاثة خيارات: “إما إعادة إرسال الموازنة إلى مجلس النواب لإعادة النظر (المادة 57 من الدستور)، على أن يقتصر التعليل الخاص بشرح أسباب الاعادة على المادة 80 الاشكالية. ويصوت المجلس إما بالأخذ بالملاحظات الرئاسية، وإما الاصرار على النص الأصلي، وهذا يحتاج الأكثرية المطلقة من عدد أعضاء المجلس، بصرف النظر عن عدد الحاضرين في الجلسة (شرط توفر النصاب)”.
ولفت بارود إلى أنه “يمكن أن يكتفي الرئيس بعدم التوقيع على القانون، أي ألا يصدر القانون، طبقا لما تنص عليه المادة 56 من الدستور، على أن يصبح القانون نافذا بعد شهر (وإن لم يوقعه الرئيس)، علما أن النص الدستوري ينص على وجوب نشر القانون عند انقضاء هذه المهلة”.
وأعلن أن “الخيار الثالث أمام الرئيس يكمن في الطعن بالموازنة أمام المجلس الدستوري خلال 15 يوما من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية”، معربا عن اعتقاده أن الرئيس عون “يحتفظ لنفسه بالخيارات التي تعد أقل كلفة على مستوى حسن سير المؤسسات والتزام العمل الدستوري، علما أنه حريص على صدور الموازنة”.