العام ٢٠١٦ كان نقطة التحول الثانية (بعد العام ٢٠٠٥ تاريخ خروجه من السجن السياسي) في مسيرة سمير جعجع السياسية. في بدايات ذلك العام طوت القوات اللبنانية صفحة الخلاف المزمن مع التيار الوطني الحر. في نهاياته صوتت للرئيس ميشال عون وأسهمت في وصوله الى قصر بعبدا. إذا كان الفضل الأساسي في رئاسة عون يعود الى حزب الله الأقوى على الأرض والذي ذهب في لعبة الفراغ الرئاسي والتعطيل والمرشح الوحيد حتى النهاية، فإن القوات اللبنانية هي التي كسرت حلقة المأزق الرئاسي وأوقفت عملية الدوران في الحلقة المفرغة، وأحدثت التحول الحاسم في مجرى المعركة. فمن دون سعد الحريري والصوت السني ما كان حزب الله قادرا على إيصال عون، ومن دون جعجع والناخب المسيحي الحليف ما كان الحريري ليتحول من ضفة الى أخرى ومن خيار فرنجية الى خيار عون، مع العلم أن الحريري باعتماده خيار فرنجية للرئاسة ومن دون التنسيق مع القوات ومن وراء ظهرها، هو الذي دفع جعجع الى الرد باعتماد خيار عون كخيار وحيد للرد والبقاء في المعادلة.
أثمر اتفاق معراب رئاسيا وصول عون الى رئاسة الجمهورية، أي الرئيس الذي يستند الى تمثيل مسيحي و«شرعية شعبية» أولا، والرئيس الذي يختاره ويسميه المسيحيون. وهذا ما يحصل لأول مرة منذ الطائف. وبعدما كان الرئيس «التوافقي» حصيلة توافق إسلامي (سني ـ شيعي)، كان الرئيس القوي هذه المرة حصيلة اتفاق مسيحي. أما الإنجاز الثاني فتمثل في قانون الانتخابات الجديد الذي طالما سعى إليه المسيحيون وطالبوا به لتحسين التمثيل والتوازن، وتطبيق أفضل للطائف والاقتراب ما أمكن من «المناصفة» الفعلية، وبالفعل حقق قانون النسبية مع دوائر جديدة والصوت التفضيلي أفضل تمثيل ممكن للمسيحيين، وكرس التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية الحزبين الأقوى على الساحة المسيحية وبفارق شاسع عن الأحزاب الأخرى، وبعد الانتخابات تشكلت أول حكومة بثقل مسيحي واضح كما ونوعا، مع حيازة طرفي اتفاق معراب على نصف مقاعدها وحقائب وازنة، وهذا التغيير الملموس في الوضعية المسيحية يتيح للقوات اللبنانية أن تقول إن اتفاق معراب كان خيارا صحيحا، وان وصول الرئيس القوي الى رئاسة الجمهورية أحدث فارقا في معادلة الحكم والتوازن الوطني. ولكن لا يمكن للقوات أن تسترسل في هذا التقييم الإيجابي لأن اتفاق معراب تعرض لتآكل سريع في مصداقيته ومقوماته وأصيب بعطب أساسي عندما لم يترجم شراكة بين طرفيه في العهد الجديد. وفي موازاة التحسن الحاصل على مستوى الشراكة الوطنية (الإسلامية ـ المسيحية)، طرأ خلل على مستوى الشراكة المسيحية (قوات ـ تيار).
ورغم ان القوات اللبنانية كانت مساهما أساسيا في وصول عون إلى قصر بعبدا، ومع ذلك لم تكن شريكا أساسيا في عهده، ولم تعامل على هذا الأساس. القوات خرجت من الانتخابات بانتصار واضح وكانت أكثر من استفاد من القانون الجديد الذي أنصفها وكشف حجمها الشعبي على حقيقته، ومع ذلك لم تنجح في ترجمة انتصارها الانتخابي «حكوميا»، ولم تحصل على ما كانت تريده من حقائب وما كانت تطمح إليه من تمثيل حكومي متناسب مع حجمها النيابي والسياسي الجديد، وهذا الاختلال الحاصل بين واقع نيابي متقدم وواقع حكومي متراجع سببه السقوط المبكر لاتفاق معراب والانهيار السريع في العلاقة بين رئيسي القوات سمير جعجع والتيار جبران باسيل.
لم تنجح عملية بناء علاقة ثقة وتبادل بين جعجع وباسيل، ليس لأسباب «كيميائية» وإنما لأسباب سياسية. قد يكون السبب في خطأ تقدير سياسي وقعت فيه القوات عندما لم تقم وزنا وحسابا لما سيكون عليه موقع ودور باسيل في العهد الجديد وطبيعة علاقته مع الرئيس عون وطموحه الرئاسي الجامح، لتكتشف أن التوقيع كان مع الرئيس عون وأن التنفيذ سيكون مع الوزير باسيل، الذي لم يظهر اكتراثا باتفاق معراب ولم يلتزم ببنوده، وإنما أدار ظهره لجعجع وتصرف كما لو أن التحالف مع الحريري يكفيه، أو كما لو أن اتفاق معراب مفصل على قياس الاستحقاق الرئاسي للعام ٢٠١٦ وانتهى معه وانتفت الحاجة إليه، وصار الأمر يتطلب اتفاقا جديدا مفصلا على قياس رئاسة العام ٢٠٢٢. ومادام هذا الاتفاق مستبعدا، لا بل مستحيل، فإن العلاقة بين الطرفين ستظل في مسار صراع وتضارب مصالح ولن يفوت باسيل فرصة أو مناسبة لإضعاف القوات والتضييق عليها. هذا ما حصل في حكومة العهد الثانية، وهذا ما حصل ويحصل في عملية التعيينات الإدارية التي تشمل مراكز أساسية وحساسة.
لا يجد باسيل صعوبة في تبرير خصومته مع جعجع ومحاربته له، وفي إيجاد الذرائع والتهم، كأن يقول إن القوات لم تقف مع العهد وحاربت التيار في ملف الكهرباء وساهمت في تشويه صورته ووضعته ضمن منظومة الفساد، أو أن القوات اختارت طريقها وانخرطت في عملية تطويقه عندما قررت التفاهم مع فرنجية وسلكت طريق بنشعي، وعندما انحازت الى وليد جنبلاط وسلكت طريق المختارة في أزمة الجبل الأخيرة.
القوات مصدومة من باسيل، وهذه الصدمة مستدامة وتترسخ وتكبر مع الوقت. والقوات أيضا خائبة من الحريري لأنه فضل التحالف السلطوي مع باسيل على التحالف السياسي مع جعجع، ولكن هذه الخيبة مؤقتة وتخف عند القوات، وكلما اكتشف الحريري أن التفاهم مع باسيل بات صعبا ومكلفا.
لم توفق القوات في حجز موقع متقدم لها في السلطة، ولكنها نجحت في نسج علاقات سياسية وتحقيق خروقات وفتح آفاق جديدة. على الساحة المسيحية كانت المصالحة التاريخية مع سليمان فرنجية و«المردة»، على الساحة الدرزية أقامت علاقة سياسية خاصة مع وليد جنبلاط متفهمة هواجسه ومراعية خصوصية الجبل تحت سقف المصالحة التاريخية، على الساحة السنية، لم تعد العلاقة محصورة مع الحريري وإنما توسعت لتشمل قوى وقيادات أخرى، في مقدمها الرئيس نجيب ميقاتي، وعلى الساحة الشيعية، أقامت القوات علاقة ود واحترام مع الرئيس نبيه بري، وأقامت مع حزب الله هدنة سياسية وإعلامية في ظل تقاطعات ملحوظة داخل الحكومة على أكثر من ملف اقتصادي ومالي وإداري.
ووسط كل هذه الحركة السياسية من المراجعة وإعادة بناء الحسابات والعلاقات، لا تبدي القوات الندم على خيارات المرحلة السابقة، والتي كانت صحيحة في وقتها ولم يكن من خيارات وبدائل أخرى متاحة، ولا تتوقف عند انتقادات واتهامات متأتية من حلفائها في ١٤ آذار سابقا بأنها مشت مع الحريري في تسوية غير متكافئة أخلت بالتوازن وفرطت ١٤ آذار وسلمت البلد الى حزب الله، وإنما تتطلع القوات الى «المستقبل القريب» والى «مرحلة ما بعد عون» عندما تنتهي ولايته الرئاسية بعد 3 سنوات. ولأن الاستحقاق الرئاسي المقبل سيكون «مفصليا» على كل المستويات، فإن القوات أدرجته في صلب جدول أعمالها للمرحلة المقبلة وتهيئة نفسها لكل الظروف والاحتمالات، من دون الخوض في الأسماء والترشيحات، ومن دون اتخاذ مواقف وخيارات حاسمة ونهائية، وفي أي اتجاه.
من الطبيعي أن يفكر جعجع برئاسة الجمهورية ويطمح للوصول الى قصر بعبدا، بعدما كان مرشحا رسميا في انتخابات ٢٠١٦ ونال أصواتا كثيرة في دورة الاقتراع الأولى والوحيدة التي جرت. ومن الطبيعي أن يفكر بالمداورة في رئاسة الجمهورية بين التيار والقوات على قاعدة الرئيس القوي. ولكن جعجع يدرك، وخصوصا بعد تجربة العام ٢٠١٦، أن رئيس الجمهورية تقرره الظروف وموازين القوى في حينه، وأن أي رئيس لا يمر إذا جوبه بفيتو شيعي أو سني، وأن الرئيس القوي هو الذي يتفق عليه المسيحيون ويوافق عليه المسلمون. الانطباع السائد عند كثيرين أن المعركة الرئاسية المقبلة محصورة بين باسيل وفرنجية، وأن جعجع إذا «حوصر» بين هذين الخيارين سيختار فرنجية. ولكن هذا الانطباع ليس في محله ومن الممكن والوارد أن تكون رئاسة الجمهورية مفتوحة على «الخيار الثالث»، وأن يكون هذا الخيار هو المفضل لدى جعجع والمخرج من وضع يحشره بين شخص العلاقة الشخصية معه سيئة، وشخص العلاقة السياسية معه صعبة، وهذا الخيار الثالث لا يتنافى مع مبدأ ومفهوم الرئيس القوي، فأي رئيس تتفق عليه القوى والأحزاب المسيحية الأساسية، يصبح قويا حتى لو لم يكن من صفوفها ومنتميا إليها، أنظار القوات وحساباتها متجهة الى مرحلة ما بعد عون: لمن تؤول الزعامة المسيحية؟! ومن يكون رئيس الجمهورية المقبل؟! مسألة الزعامة واضحة الى حد ما. مسألة الرئاسة غامضة إلى حد كبير.