لم يكن تسلّم الدولة اللبنانية الوحدات العسكرية من السلطات الفرنسية عمليةً تلقائية عقب الاستقلال. فبعد معركة تشرين الثاني 1943 التي خاضها اللبنانيون، كان عليهم خوض معارك أخرى ليصبح لهم جيش وطني يحمي الاستقلال.
مباحثات تسلّم القوات الخاصة
أدّت صدمة 22 تشرين الثاني 1943، إلى إذعان فرنسا للتحولات الدستورية، كما حددها البيان الوزاري للحكومة، وأقرها البرلمان اللبناني، في جلسته الشهيرة في 8 تشرين الثاني. ولكن الطموح الفرنسي إلى عقد معاهدة مع الحكومة اللبنانية، أو تحصيل موافقتها على مشروع معاهدة، شأن معاهدة 1936، بحيث يبقى لفرنسا من خلالها، موقعٌ ممتاز في الجمهورية اللبنانية، يسمح لقوّاتها بالبقاء في قواعد عسكرية على الأراضي اللبنانية.
وقد شكّل الطموح الفرنسي، خلفية اللقاءات والمداولات الرسمية اللاحقة بين فرنسا، من جهة، ولبنان وسوريا، من جهة ثانية، والتي كانت تبحث في آلية استرجاع المصالح المشتركة. ففي 22 كانون الأول 1943، تمّ التوصّل مع فرنسا، إلى اتفاقية على تسليم هذه المصالح، إلى الحكومتين اللبنانية والسورية. فقد تمّ الإتفاق في تاريخ هذا اليوم، بين الجنرال كاترو مفوَّض الحكومة الفرنسية، وبين ممثلي الحكومتين اللبنانية والسورية، على تسليم هاتين الحكومتين الصلاحيات التي تمارسها الآن السلطات الفرنسية باسميهما. وستُنقل بحسب هذا الاتفاق، المصالح المشتركة وموظفوها، إلى الدولتين اللبنانية والسورية، مع حق التشريع والإدارة. وذلك اعتباراً من أول كانون الثاني المقبل. والأساليب المتعلقة بانتقال هذه الصلاحيات، ستكون موضوع اتفاقات خاصة. وكان الاتفاق بدون قيد أو شرط. وقد شكّلت تلك الاتفاقية، مصدرَ تفاؤل في لبنان على صعيد نقل السلطات. لكنّ هذا التفاؤل، ما لبث أن تلاشى، بسبب رفض الجنرال كاترو، التخلّي عن «القوات الخاصة». وكان تبريرُ فرنسا، وإصرارُها على الاحتفاظ بالقوات الخاصة، يظهر جهاراً بالقول «إنه يمثل السلاح الوحيد المتبقي لها من أجل الحصول على معاهدة مرضية». وكان هذا الأمر مبعث قلق في لبنان وسوريا. إذ من المؤكد أنّ الفرنسيين، سيكونون قادرين على خربطة الأمور، ما داموا يسيطرون على القوات الخاصة والأمن العام. وفي موازاة هذا القلق، كان هناك قلق آخر:»أن تنسحب القوات البريطانية في نهاية الحرب لتحل محلها قوات فرنسية، الأمر الذي يمكّن فرنسا من أن تفرض على لبنان وسوريا معاهدةً تُلحق الأذى باستقلالهما».
استمرت المفاوضات أشهراً بعد ذلك، حتى منتصف 1944. واستمر ربط تسليم القوات الخاصة بتوقيع معاهدة، واستمر في الوقت عينه، «رفض السياسيين المحليين قبول أية صلة بين مصير القوات الخاصة وإبرام المعاهدة التي تجنّبوا أيَّ إلتزام في شأنها».
وفي مرحلة من مراحل المفاوضات (آذار 1944)، اقترح الجنرال كاترو نفسه، «أن يأخذ السوريون واللبنانيون الجنود المحليين العاملين تحت القيادة الفرنسية»، على أن يصير التسليم بشروط يتفق عليها الطرفان، بدلاً من أن يُنشئ كل من لبنان وسوريا جيشاً خاصاً له، وقد بلغت المفاوضات نقطة وضعت فيها أسس اتفاق ما ارتضاه السوريون واللبنانيون، ولكنهم عادوا واصطدموا بتعليمات وردت من «لجنة الجزائر الوطنية الفرنسية».
ومع وصول اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني، إلى باريس بقيادة الجنرال شارل ديغول، واعتراف الحلفاء بها في تشرين الأول 1944، وبسيطرتها على ممتلكاتها وراء البحار، عاد الجنرال شارل ديغول إلى إثارة مسألة المعاهدة مع كل من لبنان وسوريا، طالباً من بريطانيا الوفاء بتعهّداتها، التي كانت قد قطعتها لـ»لجنة التحرير الوطني» بتأييد هذه المطالب.
في المقابل، ظلّ الموقف اللبناني من المعاهدة، مستقرّاً ثابتاً، على رغم من جهود الحكومة البريطانية، بشخص الجنرال سبيرز، سفيرها في بيروت، في التوسّط لدى الحكومة اللبنانية، فلقد كان الجواب الدائم: «إنّ لبنان دولة مستقلة، وهو لا يرغب في عقد معاهدة مع أية دولة من الدول قبل انتهاء الحرب وإجتماع مؤتمر الصلح، وبعدئذٍ يفتح باب البحث في المعاهدات التامة ومن دون أيِّ مركز ممتاز».
وفي الطرف الفرنسي، كانت الأمور تدور كذلك حول محور متشدد، بخاصة وأنّ معظم المصالح المشتركة، كانت قد انتقلت إلى السلطتين اللبنانية والسورية. فلم يبقَ في أيدي الفرنسيين، سوى القوات الخاصة وجيوش الشرق الخاصة، اللتين عقد الجنرال شارل ديغول العزم عليهما، للحصول على معاهدة، تتمكّن فرنسا عبرها من تحصيل مركز ممتاز. ففي 6 تشرين الأول، أعلن مجلس الوزراء الفرنسي، رفضه استجابة طلب حكومتي بيروت ودمشق، تسليمهما القوات الخاصة، قبل موافقتهما على المعاهدتين المطلوبتين.
تسلّم الحكومة وحدات من القنّاصة اللبنانية
اقتضت توازنات اللعبة السياسية الداخلية في لبنان، إجراءَ تعديل وزاري، بدا وكأنه جاء ترضية معنوية للفرنسيين. ما شجع فرنسا، في المباحثات المقترحة مع الحكومة اللبنانية، على توقيع بروتوكول في 15 حزيران 1944، ينص على أن تضع السلطات الفرنسية، وحدات من القناصة اللبنانية، معزّزة بمفرزة من المصفحات، تحت تصرف الحكومة اللبنانية المباشر، على أن يجري استبدال هذه المجموعة، مرة كل أربعة أشهر. وقد جرى التسليم فعلاً، في 17 حزيران 1944، بحفلة عرض عسكري، أقيمت في الملعب البلدي في بيروت، وحضرها من الجانب اللبناني، رئيس الجمهورية والوزراء. ومن الجانب الفرنسي، المندوب العام القائد الأعلى لجيوش الشرق، الجنرال «بينيه» وأركان حربه. سلم في أثنائها رئيس الجمهورية، العلم اللبناني، إلى الزعيم فؤاد شهاب قائد اللواء الخامس الجبلي. فرفرف هذا العلم، لأول مرة بصورة رسمية، فوق رؤوس الجنود اللبنانيين، الذين كانوا يشكّلون هذه المجموعة، وأصبح بمقدورهم أن يتفيّأوا ظلّه طوال قيامهم بخدمة الحكومة اللبنانية. وقد شكّلت هذه الوحدات اللُّبنة الأولى في بناء صرح الجيش اللبناني.
المطالبة الشعبية والبرلمانية بالجيش
الظاهرة الجديدة، اللافتة في الحركة الشعبية والسياسية الدائرة آنذاك، كانت في 29 كانون الثاني 1945، مع نزول طلاب لبنان إلى الشوارع، حاملين الإعلام، ومطالبين بتسلّم الجيش، وجعله لبنانياً. وقد لاقت هذه الدعوة استجابة عامة، بخاصة، وأنّ إضراباً عاماً قد أُعلن في بيروت، فتجمّع المواطنون في شوارع المدينة وساحاتها، تحت شعار تسلّم الجيش، والذي تداولوا أمره عبر عشرات الآلاف من المناشير. هذا نص أحدها: «نريد الجيش يا طلبة لبنان، يا عماد لبنان، بالأمس في تشرين الثاني ثارت الأمة لحقها المغتصب وكنتم في ثورتها صوت الحق ففازت الأمة وفزتم، واليوم يعود الصوت الحق فيدعوكم الى المطالبة بالجيش رمز كل استقلال وسياجه الوحيد. أضربوا. أظهِروا للعالم نهار الإثنين أنّ الدماء التي غلت في تشرين لا تزال تجري حارّة في العروق. سجِّلوا في التاريخ شهر كانون كما سجِّلتم قبلاً شهر تشرين، لا حرّية ولا استقلال إلّا بالجيش».
وبالفعل «إستيقظت بيروت في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي على إضراب عام، وعلى الطلبة من جميع المعاهد العلمية، يجتمعون في شارع بلس (قرب الجامعة الأميركية)، ويسيرون إلى القصر الجمهوري (في محلة القنطاري) حيث وقفوا هناك وأنشدوا النشيد الوطني هاتفين للجيش. فأطلّ عليهم وزير الخارجية هنري فرعون، وقال مخاطباً: «إنّ الحكومة ستطالب بالجيش ولن يهدأ لها بال حتى يعود ضباطنا وجنودنا إلينا. إنّ الحكومة التي لي شرف تمثيلها، وَضعت نصبَ أعينها تحقيق جميع مطالب البلاد الاستقلالية وعلى رأسها جيشنا الباسل».
تجاوبت المدن اللبنانية كافة، مع أجواء بيروت ومع تطلعاتها. وقد واكب البرلمان اللبناني هذه التحركات الشعبية. فعقد في اليوم التالي جلسات طارئة، كان محورها الجيش اللبناني وضرورة تسلّمه. وتنقل جريدة «البشير» عن مداخلات لعادل عسيران وحبيب أبو شهلا والدكتور صراف، وأميل لحود والأمير مجيد أرسلان وجورج عقل والنائب محمد مصطفى وأديب الفرزلي وكمال جنبلاط، الذي تقدّم بإقتراح يطلب فيه من نواب المجلس المطالبة بالجيش. وكانت ختام المداخلات، كلمة لرئيس الحكومة، دولة الرئيس عبد الحميد كرامي، الذي قال: «إنّ كل دولة ليس لها جيش لا يُكتب لها عيش…» وقد ذكر أنه رصد للجيش في الميزانية خمسة ملايين ليرة، على أن يزاد المبلغ إذا دعت الحاجة. وختم البحث بشأن الجيش، بالاقتراح الآتي: «إنّ المجلس النيابي يرغب إلى الحكومة في أن تطالب الجانب الفرنسي بما بقي من المصالح وفي مقدّمتها الجيش».
عديد الجيش الذي تسلّمته السلطات اللبنانية من الفرنسيين في العام 1945 لم يكن يزيد إلّا قليلاً عن ثلاثة آلاف عنصر. وكان مكوّناً من ثلاثة أفواج من المشاة «القنّاصة»، ومجموعة خيّالة ومدرّعات من مخلّفات الجيش الفرنسي، وكذلك مجموعة مدفعية لا تزيد على 10 مدافع، 105 و 75 ملم، بالإضافة إلى بعض وحدات الإسناد والإدارة والهندسة والاتصالات، وغيرها من وسائل الدعم.
عملية بناء الجيش
شكّلت عملية بناء الجيش اللبناني الجديد في العام 1945 تحدياً ذاتياً وموضوعياً، سواء بالنسبة لقادته أو للسلطة السياسية التي رعت ولادته، فقد كان على القادة العسكريين أن يقيموا بناءً واحداً ومتماسكاً من مجموع قطع وعناصر متفرّقة من العسكريين الذين وإن كانوا جميعهم من اللبنانيين، فإنّهم لم يكونوا ينتمون إلى فكرة لبنانية واحدة، أو تجمعهم رؤية وطنية واحدة حول هوية مشتركة أو مثل أعلى واحد يتماهون به.
عندما تطوّع معظم هؤلاء الجنود في الوحدات الفرنسية خلال عهد الانتداب، لتأمين عمل أو وظيفة محترمة تعيلهم مع عائلاتهم، كان التدريب والنظام والانضباط يوحّدهم، والولاء لفرنسا هو ما يجمع بينهم، حتى وإن كان بعضهم يشعر بالولاء لوطنه فقد كان ذلك ضمنياً، ومن غير المسموح التعبير عنه أو المجاهرة به تحت طائلة العقوبة أو التسريح من الخدمة.
نال لبنان استقلاله قبل ولادة الجيش بحوالى السنتين، وأرسى يومها الميثاق الوطني صيغة التفاهم المعروفة بين أركان قادته السياسيين والطائفيين، وبالتالي قاعدة التعايش المشترك التي تلغي أو تخفّف من قوّة الجذب بين مكوّنات المجتمع اللبناني ومحيطها القريب أو البعيد، وتروّض جموح بعض فئاته واندفاعها إلى هنا أو هناك.
في المقابل كان على قيادة الجيش أن تجمع الوحدات الخاصة Troupes Spéciales بعد تسلّمها من قبل الحكومة اللبنانية وتعيد تنظيمها بشكل قانوني موحّد وثابت أولاً، لتبدأ من ثم عملية توحيد رؤيتها إلى مؤسستها الوطنية الحرة والجديدة، والتخلص من شوائب الفترة السابقة وتناقضاتها.
لم يكن القادة السياسيون بعيدين عن حال الفوضى، والتشرذم التي تَسِمُ هذه الوحدات، لذلك طلب الرئيس بشارة الخوري من الزعيم فؤاد شهاب بعد تعيينه قائداً للجيش «أن يخلق من هذه الشراذم جيشاً وطنياً أصيلاً».