لم يعد رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل يخفي مشروعه الرئاسي ورغبته في الوصول الى قصر بعبدا. ولم يعد الأمر مجرد طموح رئاسي وإنما أصبح مشروعا سياسيا متكاملا على أساسه تتحدد التحالفات والخصومات وتعقد التفاهمات والاتفاقات وتجمع الأوراق والنقاط.
من السابق لأوانه الحديث في موضوع الرئاسة لسببين على الأقل: الأول يتعلق بولاية الرئيس ميشال عون التي لم تبلغ منتصفها بعد، والثاني يتعلق بوتيرة الأحداث في المنطقة وتبدل الظروف بين اليوم والغد. هذه الظروف هي التي تحدد الإطار الإقليمي للاستحقاق الرئاسي والهوية السياسية للرئيس المقبل. ولكن باسيل بدأ معركته الرئاسية باكرا وسريعا لدرجة أنه يحرق المراحل ويبدو على عجلة من أمره. ومما لا شك فيه أن وجود الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا يساعد باسيل على اختصار الوقت والمسافات، وعلى دفع مشروعه الرئاسي الى الأمام. فالرئيس عون الذي حرص على حسم مسألة رئاسة التيار الوطني الحر قبل وصوله الى قصر بعبدا، يريد حسم مسألة رئاسة الجمهورية المقبلة قبل مغادرته قصر بعبدا، ومن جهته يحرص باسيل على الإفادة من هذا الامتياز الذي يعطيه وضعا مميزا في السباق الرئاسي كمرشح جدي ورئيسي، بحيث بات أحد طرفي المنافسة في مرحلة التصفيات النهائية معروفا ومحددا.
وضع باسيل الرئاسة نصب عينيه كهدف مباشر، وباشر عملية تجميع أوراق ونقاط وأحرز تقدما في المعادلة السلطوية والسياسية من خلال:
٭ حيازة أكبر كتلة نيابية في البرلمان بعدما كان الرئيس سعد الحريري هو صاحب الرقم 1.
٭ الحصول على أكبر كتلة وزارية تلامس خط الثلث المعطل.
٭ إعادة تركيز العلاقة مع حزب الله بعد الاهتزاز الذي حدث في فترة الانتخابات، وكان واضحا ذهاب باسيل باتجاه مواقف داعمة للحزب على المستوى الإقليمي بطريقة أكثر وضوحا وأقل تحفظا مقارنة بما كان عليه الأمر في حكومة العهد الأولى.
٭ نقل «التصنيف الائتماني» للعلاقة مع الرئيس نبيه بري من درجة سلبية الى درجة مستقرة.
٭ الحفاظ على علاقة جيدة مع الرئيس سعد الحريري، وإن كانت أكثر حذرا وأقل انسجاما مقارنة بما كانت عليه من قبل.
٭ الاختراق السياسي داخل الطائفة الدرزية الموازي للاختراق النيابي في الجبل، وإقامة تحالف مع ثنائية طلال ارسلان ـ وئام وهاب المواجهة لوليد جنبلاط وأحادية الزعامة.
٭ الاختراق السياسي في زغرتا معقل سليمان فرنجية عبر التحالف مع النائب ميشال معوض في موازاة الخرق النيابي في الشمال للمرة الأولى (5 نواب).
٭ الدخول شريكا في «الدولة العميقة» والسيطرة الى حد كبير على الشق المسيحي فيها، ليفعل ما فعله بري «شيعيا» وما فعله جنبلاط «درزيا» وما فعلته الحريرية السياسية «سُنيا».
٭ حسم الوضع والقرار في التيار الوطني الحر على قاعدة الولاء الشخصي له، وتحول المعارضة داخل التيار الى مجموعات متناثرة أو «حالات إفرادية».
٭ تصحيح علاقته مع دمشق بنسبة معينة بدءا من ملابسات القمة العربية الاقتصادية في بيروت، وصولا الى ملف النازحين السوريين وكيفية مقاربته.
٭ إقامة شبكة علاقات خارجية بحكم وجوده في وزارة الخارجية على امتداد سنوات ومن دون انقطاع، والبارز كانت العلاقة الجديدة مع روسيا.
٭ التغلغل في أوساط الانتشار والاغتراب اللبناني والربط مع مراكز ثقل فيه، في سياق عملية إعادة ربط المغتربين بوطنهم الأم.
في الواقع، حقق باسيل إنجازات وحجز له مكانا في الصف الأمامي بين قيادات الصف الأول، ولكنه الأكثر إثارة للجدل وأكثر من يطرح إشكالية حول شخصه وأدائه. الجميع تقريبا، حتى خصومه، يقرون بأنه مجتهد ونشيط وأكثر من يتحلى بـ «دينامية سياسية» في حركة لا تهدأ، متعددة الأشكال والمستويات. يمكن أن تراه وزيرا للخارجية مجتمعا مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وفي اليوم التالي سياسيا خطيبا في إحدى قرى البترون أو حزبيا ناشطا مع مجموعة في جبال اللقلوق.. ومن الواضح أن باسيل أثبت قدرة على استيعاب قواعد اللعبة واكتساب مهارات سياسة والانتقال في فترة زمنية وجيزة نسبيا من «مدرسة الهواة» الى مرحلة «الاحتراف»، ولكنه يواجه وضعا صعبا مليئا بالتحديات وتعتريه نقاط ضعف على المستويين الشخصي والسياسي. خصومه كثر وفي كل الطوائف ولديه مشاكل مع الجميع وبنسب متفاوتة. وتلاحقه الاتهامات من الوزن الثقيل: متهم من قوى وقيادات سنية بأنه يمعن في إضعاف وقضم دور رئاسة الحكومة وصلاحياتها، وفي الالتفاف على اتفاق الطائف عبر ممارسات وأعراف مستحدثة تغني عن تغيير النصوص وتعديل الدستور. ومتهم من الحزب الاشتراكي بأنه منخرط في خطة لتطويق جنبلاط وإضعافه وفي تغذية الانقسام والخلاف الدرزي الداخلي، ومتهم من القوات اللبنانية بأنه يعمل على تدمير المصالحة المسيحية ويعمد الى تمزيق اتفاق معراب وكأنه لم يكن، وكثيرون يتهمونه بأنه يمارس سياسة فوقية متعجرفة ولا يقيم وزنا لأصول وتوازنات وخصوصيات، وبأنه يستقوي بالرئيس عون ويستنزف عهده.
وأما التهمة الأولى التي تلاحق باسيل، فهي أنه يمارس دور «الرئيس الظل» متجاوزا موقعه ودوره وصلاحياته، ويتصرف من خلفية أنه يملك تفويضا مطلقا من الرئيس ميشال عون و«فائض قوة» يتيح له التدخل في كل «شاردة وواردة» وأنه «الصهر المدلل». في الواقع، يتمتع باسيل برضى وثقة الرئيس عون الذي يتوسم فيه خيرا ويرى فيه امتدادا ووريثا، وأن لديه القدرات لإكمال ما بدأه. من الصعب جدا الفصل بين عون وباسيل، ومن الخطأ الرهان على شرخ وخلاف بينهما، ومن يفعل ذلك عبر تحييد رئيس الجمهورية وكيل المديح له، والتركيز في التصويب على باسيل وشن أعنف الهجمات عليه، إنما يفعل على سبيل المناورة لعلمه بطبيعة العلاقة العضوية بين الرجلين، ولأن الهدف لم يعد عون ورئاسته وعهده، وإنما باسيل ومشروعه الرئاسي وقطع الطريق عليه.
خطة باسيل للوصول الى قصر بعبدا بسيطة ومكشوفة وتختصر بتجديد عقد التسوية وربط علاقة جيدة مع طرفيها الأقوى، السني والشيعي، الشريك سعد الحريري والحليف حزب الله، ولا يبدي باسيل اهتماما بمحور واسع يضم نبيه بري ووليد جنبلاط ود.سمير جعجع وسليمان فرنجية ونجيب ميقاتي وسامي الجميل. بين هؤلاء من حسم موقفه الى جانب فرنجية، ومنهم من يكيف موقفه مع ميزان القوى لاحقا.
علاقة باسيل مع الحريري لم تعد في مستواها السابق من الرسوخ والانسجام، وثمة تغيير حدث في مناخ العلاقة التي مازالت تستند الى قاعدة مصالح قوية ولكنها فقدت شيئا من حرارتها وتماسكها السياسي، ولم يعرف بعد سبب هذا التراجع الذي له أسباب كثيرة تبدأ من ابتعاد نادر الحريري وتمر في حملة الضغوط السنية على الحريري لوقف دورة التنازلات وسياسة التساهل مع باسيل، وصولا الى تبدل المعطيات الإقليمية في ظل اشتداد الصراع الاقليمي والضغوط الأميركية على إيران ومراوحة الأزمة السورية في مكانها.
أما علاقة باسيل مع حزب الله، فإنها مازالت تحالفية راسخة ولكنها مشوبة بملاحظات الحزب على أداء باسيل الذي يسبب له إحراجات أو متاعب، وتشوبه أيضا شكوك باسيل في موقف الحزب منه، وتحديدا من مشروعه الرئاسي. ويعرف باسيل جيدا أن فرنجية ينافسه على تأييد الحزب وأن وعدا مبدئيا تلقاه منه ولكنه ليس نهائيا ولا كالوعد الذي أعطاه الحزب للعماد ميشال عون «أنت أو لا أحد». لذلك ليس أمام باسيل إلا إثبات أهليته وقوته، وأنه الأفضل والأقدر على تأمين مصالح الحزب واستراتيجيته، والوحيد القادر على أن يكون امتدادا للرئيس ميشال عون ويضمن استمرارية الحالة الشعبية السياسية غير المسبوقة التي أوجدها على الساحة المسيحية.