كتب محمد وهبة في صحيفة “الاخبار”:
في مطلع الأسبوع الجاري، ارتفع سعر صرف الليرة اللبنانية لدى الصرافين إلى 1530 ليرة مقابل كل دولار واحد، أي بزيادة 22.5 ليرة عن السعر الرسمي المحدّد بنحو 1507.5 ليرات وسطياً. هذا التطوّر يأتي من دون أي مسببات مباشرة، ما يثير القلق من بدء تسارع الأزمة المالية ومن حدّة مسارها، ولا سيما أن ارتفاع سعر الصرف في السوق يؤدي إلى انخفاض القدرة الشرائية ويخنق الاستهلاك
من دون أي سبب مباشر، شهدت السوق غير الرسمية قفزة جديدة لسعر صرف الليرة ليصبح الدولار الواحد موازياً لنحو 1530 ليرة. ”أولويات السياسة النقدية التي ينتهجها مصرف لبنان هي السبب وراء هذا الأمر»، يقول الوزير السابق شربل نحاس. لا يكتفي نحاس بسرد الأسباب، فالمسألة تتعلق أيضاً بالأثر السلبي على القدرة الشرائية ”المثير للقلق هو المسار الذي يسلكه سعر الصرف. نحن اليوم في بداية هذا المسار».
شكلياً، لا يزال سعر صرف الليرة مقابل الدولار يبلغ 1507.5 ليرات وسطياً. هذه المعادلة موجودة فقط بين مصرف لبنان والمصارف، أما في السوق، أي بين الصرافين والتجار والمستهلكين، فالأمر مختلف تماماً، إذ يتداول سعر الصرف بين هذه الأطراف على أساس 1530 ليرة مقابل كل دولار واحد، أي بزيادة نسبتها 1.5% أو ما قيمته 22.5 ليرة مقارنة مع السعر الرسمي.
واللافت أن هذا التطور في السعر لم يأت متزامناً مع أي تطورات أخرى مسببة مباشرة له خلافاً لما حصل في السابق. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر الصرف يوم صرّح وزير المال علي حسن خليل بأنه يخطط للقيام بعملية إعادة هيكلة للدين العام، وكذلك حصل يوم احتجز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية، وحصل أيضاً يوم خفضت ”موديز“ تصنيف لبنان إلى ما يعرف بـ«مستوى الخردة»… ثمة أمثلة كثيرة عن التزامن بين اندلاع الأزمات بمختلف أنواعها وارتفاع سعر الصرف، غير أنه لا أزمة آنية أدّت إلى ارتفاع سعر الصرف منذ ثلاثة أيام إلى اليوم سوى أن ”الأمر مرتبط بعملية تدحرج بطيئة وثابتة في الوقت نفسه»، يقول النائب نقولا نحاس.
وبرأي الوزير السابق شربل نحاس، إن ترتيب أولويات السياسة النقدية هو المصدر الفعلي لهذا الارتفاع المفاجئ نسبياً. ”من أولويات مصرف لبنان الحفاظ على سعر الصرف الرسمي، وعدم إفلاس الدولة، وعدم إفلاس المصارف، وفي قعر هذه الأولويات تأتي القدرة الشرائية للمستهلكين». وفي إطار هذا الترتيب، فإن الهدف من السياسات النقدية الانكماشية يكمن في ”تقليص القدرة الاستهلاكية، وبالتالي تقليص الاستيراد. مفاعيل هذا الأمر مشابهة تماماً لمفاعيل الرسم المقطوع على الواردات بمعدل 3%، إذ إنه يضغط على القدرة الشرائية فتتراجع مستويات الاستهلاك ويتقلص الاستيراد الذي نستورد غالبيته من الخارج وندفع ثمنه بالعملات الأجنبية».
وبحكم أهداف السياسة النقدية الانكماشية وأولوياتها، انتقل عبء تمويل السوق بالدولارات من مصرف لبنان إلى المصارف، ثم إلى الصرافين، فالمستوردين الذين نقلوها إلى الزبائن. وباتت العلاقة بين المصارف ومصرف لبنان قائمة على أساس سعر الصرف الرسمي وضمن قيود وضوابط وشروط محددة لا تنطبق على غالبية عناصر النشاط الاقتصادي في المجتمع (مستوردون، صناعيون، مستهلكون…). وهذه الغالبية لجأت إلى الصرافين لشراء الدولارات. إلا أنه في ضوء حاجة مصرف لبنان الملحة إلى الدولارات، وهندساته التي تعمل على امتصاص الدولارات من السوق لتعزيز موجوداته بالعملات الأجنبية، فإن كمية الدولارات الموجودة في السوق تقلّصت إلى حدّ كبير، ما أدّى إلى رفع سعرها.
أبرز مثال فعلي على هذا التوصيف ”ما حصل مع أصحاب المولدات الذين يفرضون تحصيل فواتيرهم من الزبائن بالدولار الأميركي، ومع تجار الأجهزة والخدمات الخلوية، وقد يحصل مع السوبر ماركت في وقت لاحق، وقد يحصل مع أصحاب محطات المحروقات…»، يقول شربل نحاس.
في الواقع، يستورد التجار السلع الأولية والاستهلاكية من الخارج بما قيمته 19 مليار دولار، ويوزّعونها على المصانع وتجار نصف الجملة وزبائن المفرق، ويستوفون ثمنها منهم بالدولار أو بما يوازيه بالليرة اللبنانية. ومع شحّ الدولارات في المصارف، وارتفاع سعر الصرف لدى الصرافين، بات استيفاء ثمن السلع بالليرة اللبنانية بما يوازي سعر الصرف عند الصرافين… «سعر الصرف ارتفع ويدفع اللبنانيون ثمن بقاء سعر الصرف الرسمي عند مستوياته، وقد يدفعون لاحقاً ثمناً إضافياً»، بحسب شربل نحاس.
إذاً، كل الذين مدخولهم بالليرة اللبنانية، أصابهم ارتفاع سعر الصرف وضعفت قدرتهم الشرائية. مصدر هذه النتيجة عند الكثير من الخبراء، هو السياسات النقدية، إلا أن هذه السياسات جاءت لتغطّي المشكلة الأكبر بحسب النائب نقولا نحاس. ”فالمسألة الأساسية تكمن في توقف التدفقات المالية إلى لبنان وصارت الدولة تواجه تمويل حاجاتها وترفها وفسادها وتفككها باقتصاد ضعيف. كما يقول صندوق النقد الدولي، فإن ثبات سعر الصرف هو الأساس. هل لدينا هذا الثبات؟ نحن نضع الثبات في سعر الصرف على المحكّ»، وفق النائب نحاس.
والنتائج على ضعف القدرة الشرائية لا تنحصر بالأثر السلبي من ارتفاع سعر الصرف في السوق، بل هناك عامل إضافي يكمن في ارتفاع أسعار الفائدة. «كل ارتفاع في سعر الفائدة يأكل من القدرة الشرائية. حتى اليوم، ارتفعت معدلات الفائدة بنحو 12 نقطة مئوية، إنما الفرق بين عامل ارتفاع سعر الصرف وعامل ارتفاع سعر الفائدة، أن الأخيرة قابلة للسيطرة فيما انفلات سعر الصرف لا يمكن التحكّم به وبنتائجه»، وفق النائب نحاس.