Site icon IMLebanon

التسوية الرئاسية 2016: هل حان الوقت للاعتراف بـ ”الخطأ القاتل”؟

كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:

حين وقف زعيم تيار المستقبل سعد الحريري في تشرين الأول 2016 معلناً تبنيه ترشيح رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، اعتبر أنه يخوض مغامرة سياسية كبرى. يومها قال وسط حالة اعتراض شعبية في بيئته: «ما نحن بصدده هو تسوية سياسية. لن أختبئ خلف إصبعي، وأعلم أن الكثير منكم غير مقتنع بقراري ويشكك بنوايا «حزب الله» الحقيقية ويقول لي هذه ليست تسوية بل تضحية. وأنا اقول نعم قراري هو مخاطرة سياسية كبرى، ولكنني مستعد للمخاطرة بشعبيتي ومستقبلي السياسي ألف مرة لأحمي الجميع، ولن أخاطر بأي أحد منكم كي أحمي نفسي وشعبيتي». 

حينها، وبعد سنتين ونصف من فراغ رئاسة الجمهورية، اعتبر الحريري أن «هذا قرار نابع من ضرورة حماية لبنان وحماية النظام وحماية الدولة وحماية الناس، ويستند إلى اتفاق بأن نحافظ معاً على النظام ونقوّي الدولة ونعيد إطلاق عجلة الاقتصاد، وتحييد أنفسنا عن الأزمة السورية، وتوصلنا إلى اتفاق مع عون على أن أحداً لن يطرح أي تعديل على النظام قبل إجماع لبناني على هذا الطرح، وهذا كلام ينطلق من إجماعنا الذي كتبناه في دستور الطائف».

بعد نحو 3 سنوات على التسوية، وعلى وقع ما شهدته البلاد منذ انتخاب عون، وما تشهده في الآونة الأخيرة، ما قبل «حادثة قبرشمون» وما بعدها من إمعان في ضرب المؤسسات، بات السؤال المطروح: هل حان الوقت للإقرار بأن التسوية كانت خطأ فادحاً وأنها ستكون قاتلة ومدمرة على الكيان اللبناني برمته، إذا استمرت الأمور ذاهبة في طريق الانهيار على غير مستوى؟

يكفي التوقف ملياً عند البيان الذي أصدره الرئيس تمام سلام أحد الأركان الثلاثة لـ «مجموعة رؤساء الحكومات السابقين»، وهو المعروف عنه الدقة الشديدة في اختيار الكلمات، وعدم إثارة الغبار السياسي من حوله أو اعتماد الشعبوية. ظهّر اللوحة السياسية منذ التسوية بكثير من الجرأة حين قال: «بدل انطلاق مسار إصلاحي وعدوا به، شهد لبنان وما زال مساراً انحدارياً مُولّداً للأزمات». وما يجري أننا «نعيش حالة من الفوضى السياسية المنظمة والمدروسة، التي ترمي إلى ضرب الإطار الذي أنهى الحرب الأهلية ووضع قواعد جديدة للحكم في لبنان، أي الدستور المنبثق من اتفاق الطائف».

وبكثير من الوضوح، ومن دون تدوير زوايا، اعتبر أن «الدستور تعرّض، وما زال، لسلسة من الاعتداءات بهدف فرض وقائع وأعراف جديدة واختراع مفاهيم تخل بجوهر النظام السياسي. وبدأ ذلك في فترة تشكيل الحكومة، وبقي مستمراً في شكل هرطقات وبدع جديدة تظهر في كل استحقاق. والهدف الأول لهذه الاعتداءات كان صلاحيات رئيس مجلس الوزراء التي تجري مساع حثيثة لقضمها، ومحاولات لتكبيلها بممارسات من قبل قوى لا تفهم السياسة إلا كيداً وغَلَبة، ولا ترى الوطن إلا بمنظار مصالحها الخاصة».

وحالة الالتفاف وصلت إلى حدّ «تجاوز القواعد الدستورية إلى مجلس النواب، حيث جرت محاولة فاشلة لنسف موازنة الدولة التي أقرتها السلطة التشريعية، تلاها اجتهاد جديد حول ضرورة المناصفة في جميع الوظائف العامة باعتبار أن «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية» التي تنص عليها المادة 95 من الدستور لم تُشكّل بعد».

يتعدى الأمر هنا استهداف فريق أو مؤسسة ما. فعدم التصدّي قاد إلى التمادي، وقد عبّر بيان سلام عن ذلك حين اعتبر أن الدستور «ليس لائحة نختار منها ما يرضينا، ونرفض ما لا يتلاءم مع مصالحنا. إنه نص سام مُلزم للجميع، يرسم قواعد النظام السياسي للبلاد وصلاحيات المؤتمنين على مؤسسات الحكم والعلاقة بين هذه المؤسسات، وأي افتئات على هذه الصلاحيات يُعرّض التوازن الدقيق في لبنان للمخاطر. كما أن أي رغبة في تعديل الدستور لا تتمّ إلا وفق ما رسمه الدستور نفسه، ولا تجري بالتهريب أو بقوة الأمر الواقع(…) والمساس بالتوازن الوطني هو من الكبائر التي لا يرحم التاريخ مرتكبيها».

«البيان – الثورة» لسلام، وفق توصيف مراقبين، ليس تعبيراً فقط عن الضيق السنيّ، بل دق لناقوس الخطر الكبير الذي بات يهدد بسقوط الهيكل على رؤوس الجميع، الأمر الذي بات يستوجب وقفة جدّية للتنبيه من تبعات هذا الواقع ومخاطره. وهو إذ ترك الباب مفتوحاً في تعويله على مرجعية رئيس الجمهورية، وقدرته على الحفاظ على مسافة متساوية من الجميع ووقف هذا المسار الانحداري المضر للعهد وللبنان، فقد دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري والزعيم الوطني الكبير وليد جنبلاط، مع جميع الشرفاء الحريصين على هذا البلد ومستقبل أبنائه، إلى بذل كل جهد من أجل انتشال لبنان من حالة البؤس السياسي التي وصل إليها.

تكمن أهمية بيان سلام في أنه يضع الأصبع على الجرح النازف منذ زمن. هذا الجرح الذي لم تعد تنفع معه المُسكّنات، من هنا أو هناك، أو محاولة إيهام المريض الذي يفتك به مرض السرطان بأن العوارض التي يعاني منها ناتجة عن آلام بسيطة. بيان سلام في هذا الإطار يجسد – ولو أتى باسمه – ما تعكسه «مجموعة رؤساء الحكومات السابقين» من هواجس وتدعو إليه من خطوات باتت حاجة ضرورية لإنقاذ لبنان مما يُخطط له، وهو أمر يتطلب تلاقي على مستوى القيادات الوطنية للوقوف في وجه محاولات الالتفاف على الدستور وضرب اتفاق الطائف بالممارسة، إلى أن تحين فرصة الانقضاض الكلي عليه، وعلى المرتكزات التي أرساها.

 

باتت حادثة قبرشمون، اليوم، هي الواجهة للصراع الأعمق الدائر. كَسرْ وليد جنبلاط يأتي في سياق خارطة طريق مرسومة لمعالم لبنان الذي يريده سوياً «حزب الله» و«التيار العوني». لا يمكن لـ «حزب الله»، مهما بلغ طموحه، تغيير وجهة لبنان من دون إحداث تبدلات جذرية في التوازنات الداخلية. يؤمّن حلفه الاستراتيجي مع «التيار الوطني الحر» ركيزة مسيحية في مشروعه. ومع تطويق جنبلاط بهدف إضعافه وخلق قوى درزية وازنة، يتم ضرب ركيزة أساسية في الكيان اللبناني. فاستناداً إلى «نظرية الدومينو» وتأثيرها في عملية التدحرج. فإن سقوط جنبلاط سيتبعه سقوط زعامات أو قيادات أخرى، الواحدة تلو الأخرى ولو كانت أكثر مطواعية. لا وهم عند أحد من المراقبين أن النجاح في استهداف جنبلاط، بما يمثله من موقع ودور في المعادلة الوطنية كما الدرزية، سيعني أن الطريق قد عُبّدت أمام استهداف سعد الحريري، ومن بعده، وربما من قبله، رئيس حزب «القوات» سمير جعجع.

المعركة اليوم لا تحتمل أي التباس في توصيف أسبابها أو استقراء أهدافها ولا تحتمل التواجد في منطقة رمادية، لأنها ستكون قاتلة في نتائجها. المواجهة تبدأ من رفض الحريري للشروط التي تُفرض عليه لبقاء حكومته. الذهاب إلى تقديمه مزيداً من التنازلات بالشكل أو المضمون تحت حجة إنقاذ البلاد سيكون هو الطريق الأقصر للانهيار وزوال لبنان بصيغته الراهنة.