كتب أنطوان الأسمر في جريدة “اللواء”:
تزيد ملابسات المادة 80 من قانون الموازنة، معطوفة على التهديد بمقصلة العدد، في ضرورة أن تؤخذ في الاعتبار، عاجلا لا آجلا، هواجس المسيحيين من مجمل مقاربة دولة الطائف وفراعنتها – أمراء الحرب السابقين – لمفهوم الميثاقية والحضور المسيحي في الدولة عموما، وفي الإدارة على وجه الخصوص باعتبارها أحد أبرز وأقوى الاذرع الدولتية التنفيذية.
كان واضحا أن سلطة الوصاية وأدواتها المحلية تقصّدت في بدايات دولة الطائف، وتحديدا في العقد الأول منها، تطويع المسيحيين عبر إقصاء قياداتهم وتعويم وتفريخ قيادات صورية بديلة لم تستطع أن تنزع عن نفسها ثوب الاصطناع السوري! وكان من نتيجة هذا التطويع أن هاجر من المسيحيين من هاجر، وهجر من هجر منهم الدولة، فاستحالت إداراتها مساحة مشرعة لأمراء الحرب، يعينون من يريدون من أتباعهم والقلة ممن تبعهم من مسيحيين.
أدى هذا التمادي في استباحة الإدارة الى حشوها وجعلها مكانا للتكسّب وبديلا مقوننا لإقتصاد الحرب والميليشيا ما تسبب في تجويفها شيئا فشيئا، والأخطر تقليص الحضور المسيحي. ولا ينفع في هذا السياق التذرّع بأن المسيحيين هجروا الدولة فما ذنب غيرهم، ذلك أن هؤلاء هٌجّروا قصدا من الإدارة سوى من ارتضى الالتحاق بأمراء الحرب. لا بل أن مسيحيين في بعض المؤسسات اضطهدوا بالمعنى الحرفي للكلمة. كما أن ثمة مراكز كثيرة دون الفئة الأولى أعطيت لغيرهم متى خلا أحدها أو شغر في حين أن وظائف في مراكز مماثلة كان يجري رفض تعيين مسيحيين فيها بحجة أنها من كوتا غيرهم.
ظلت الحال على هذا المنوال من اللاإتزان والإختلال الطائفي العميق والخطر الى العام 2005 حين بدا أن ثمة فرصة لعودة مسيحية إلى الإدارة بالتوازي مع العودة السياسية. ونشأت مؤسسات هدفها الرئيس تشجيعهم على الإنخراط في الدولة من طريق ترغيبهم بفوائد الوظيفة العامة التي من شأنها أن تحد من الهجرة، وتاليا من اللاإتزان السياسي والإداري. لكن كل الجهد الذي بذل لم يكن كافيا لا لرأب الهوة الطائفية في الإدارة ولا في إقناع المسيحيين بالتهافت على وظائفها لأسباب كثيرة، ليس أقلها أن هذه الادارة باتت مكبّلة باعتبارات وعلل مرتبطة خصوصا بالعقلية التي رسّختها 3 عقود من الممارسات غير السوية، وحولّتها إقطاعيات على حساب الكفاءة والمساواة في الفرص. فمن جهة تُحجز – عُرفا لا نصا – الوظائف لغير المسيحيين في كل الفئات الإدارية حتى الخامسة منها، لا الفئة الأولى وحدها، ومن جهة ثانية تشن الحملات الشعواء على تعليق مراسيم تعيين الـ400 ناجح في إمتحانات مجلس الخدمة المدنية بفعل الخلل الطائفي، لتتوج بتمرير المادة 80 في قانون الموازنة بالشكل الذي تم فيه خلافا للإتفاق السياسي الذي سبق الجلسة التشريعية، والذي باتت تفاصيله معلنة وواضحة حدا لم يتمكن أي من المعنيين به من نفيه، ولا حتى غبار التعمية الحاصل.
في هذا السياق تماما تأتي رسالة رئيس الجمهورية الى المجلس النيابي طلبا لتفسير المادة 95 من الدستور والتي طُبّقت حينا مجتزأة ومشوّهة، وعُلّقت أحيانا كثيرة لمواكبة حاجة أو رغبة.
والتفسير المطلوب هنا لا يتعلّق حصرا بالتوازن المرجو في الإدارة الى حين بدء إجراءات إلغاء الطائفية السياسية، بل يتعداها الى حسم مسألة تعداد الطائفتين ومذاهبهما. فليس عابرا أن يُهدّد المسيحيون بمقصلة العدد كُلّما طلب حقا او تصحيحا لخلل أو إعوجاج. هكذا ووجهوا يوم طالبوا بالتمثيل الصحيح في مجلس النواب العاكس للحقيقة بحيث يُنتفى منطق الودائع الذي كرّسته الوصاية على حساب العدالة (حينها قيل صراحة لأحد القياديين المسيحيين في قوى 14 آذار: إما تقبلوا بالمناصفة على حالها أي الشكلية، وإما نذهب الى النسبية في العدد في حال ظللتم على إصراركم على انتخاب المسيحيين نوابهم)، وهكذا يواجهون اليوم بمطالبتهم بتصحيح الخلل في الإدارة، وهكذا سيواجَهون حتما عند كل إستحقاق مقبل.
لذا بات ملحا بما يرقى إلى الضرورة الوطنية القصوى، حسم مسألة التهديد بالعدد من طريق تفسير واضح ليس فقط للمادة 95، بل لمعنى ومغزى عبارة مقتضيات الوفاق الوطني التي باتت أقرب الى «سلوغان» خال من الدسم، لا تجد لها سبيلا للتحقق متى تقتضي الحاجة.
والمسؤولية جسيمة على مجلس النواب للحسم ولإقران القول بالفعل. ذلك وحده المنفذ الى تحقيق التوازن الصحيح مقدمة للدولة العلمانية حيث يستوي تحتها كل اللبنانيين في ضوء تحقيق هذا التوازن وإلا سيبقى المسيحيون ينظرون الى كل الممارسات غير السوية على انها تجويف لهم ولحضورهم توطئة لوضع اليد على ما تبقى من حقوق، وعندها تصبح خيارات المجابهة ملحة ومباحة ومعللة.