كتب نجم الهاشم في صحيفة “نداء الوطن”:
2 آب 2014 كان يوماً حزيناً في لبنان وموجعاً للجيش اللبناني. عندما تم توقيف عماد أحمد جمعة القيادي في الجماعات الإرهابية في جرود القلمون السوري على أحد حواجز الجيش اللبناني في جرود عرسال، لم تكن ردة الفعل متوقعة بالحجم الذي حصلت فيه. ذلك أن الرجل لم تكن قد تحددت هويته ومسؤوليته بعد، وكانت تحصل توقيفات لعدد من المسلحين والإرهابيين وتبقى محصورة في إطار رد الفعل العادي. بالإضافة إلى ذلك كان جمعة ينتقل باستمرار بين عرسال والجرود ولكن توقيفه كان مناسبة لزج الجيش في معركة لم تنته إلا في آخر آب 2017 في عملية “فجر الجرود”، بعد عشرة اشهر على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وأربعة أشهر على تعيين العماد جوزف عون قائداً للجيش. وإذا لم يكن متاحاً الإحتفال الكبير بهذا النصر فإن هذه المعركة وضعت الجيش في موقع متقدم من أجل استعادة السلطة الكاملة الأمنية على كل الأراضي اللبنانية ،لأنه يبقى الخرطوشة الأخيرة لحفظ الإستقرار وتحرير القرار.
معركة “فجر الجرود” أخرجت مسلحي الجماعات الإرهابية الأصولية من كل الأراضي التي كانت تحتلها في لبنان. هذا الإنجاز أتى بعد 12 عاماً على خروج الجيش السوري من لبنان (26 نيسان 2005)، وبعد 17 عاماً على خروج الجيش الإسرائيلي (25 ايار 2000)، وبعد 35 عاماً على خروج منظمة التحرير الفلسطينية بشكل رسمي قيادة وألوية وفصائل مسلحة (آب 1982) في مرحلة أولى من بيروت والجنوب، قبل الخروج الثاني من طرابلس والشمال في العام 1983. هذه الإنسحابات التي حصلت بالقوة والإكراه جعلت الجيش اللبناني القوة الوحيدة الرسمية المفترض أنها ممسكة بالأمن في لبنان من دون أي منازع وللمرة الأولى منذ العام 1975. ولكن على رغم ذلك لا يزال هناك قصور في الشعور بأن السيادة اللبنانية كاملة على أراضي الجمهورية التائهة في جرود الخلافات السياسية، ذلك أن سلاح “حزب الله” لا يزال يشكل عائقاً أمام استعادة هذه السيادة لأنه يمتلك وحيداً هذا السلاح والقرار باستخدامه في لبنان وخارج لبنان. فهل سيكون الجيش اللبناني أمام تحقيق هذه الفرصة التاريخية من خلال غطاء سياسي كبير، أم أن التراخي الأمني الذي يتكرر في أكثر من منطقة سيجعل هذا السلاح غير الشرعي متاحاً أمام الكثير من “الفصائل” اللبنانية؟ ذلك اليوم عندما يأتي سيكون عن حق العيد الحقيقي للجيش والدولة واللبنانيين.
من نهر البارد إلى فجر الجرود
في آب 2014 كان مضى خمسة أشهر على الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان وكانت حكومة الرئيس تمام سلام هي التي تصرف الأعمال. وعلى رغم الأجواء الحربية التي كانت تتمدد إلى لبنان نتيجة انخراط “حزب الله” والجماعات الأصولية في الحروب السورية فقد تمكنت هذه الجماعات المنتمية إلى تنظيمي “داعش” و”النصرة” من مباغتة الجيش اللبناني ومن التقدم داخل عرسال واحتلال عدد من المواقع وأسر 21 جندياً من الجيش و15 من قوى الأمن الداخلي وقد تكبد الجيش خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد خلال عمليات استعادة المواقع وبلغ عدد شهدائه 24 بالإضافة إلى 86 جريحاً.
في آب 2017 كانت الصورة معكوسة. عندما أطلق قائد الجيش العماد جوزف عون عملية “فجر الجرود” فجر السبت 19 آب كانت التنظيمات الإرهابية تتهاوى في سوريا وكانت هزيمتها شبه حتمية بعدما فقدت الأراضي التي كانت تحتلها تباعاً وانهارت معنوياتها وفرت قياداتها، بينما في العام 2014 كانت في عز صعودها وانتشارها وانتصاراتها التي هددت النظام السوري في دمشق قبل أن يبدأ التدخل الروسي في العام 2015 وقبل أن تقود الولايات المتحدة الأميركية الحرب ضد “داعش”. ولذلك أنهى الجيش عملية تطهير جرود القاع وراس بعلبك وصولاً إلى الحدود مع سوريا خلال عشرة ايام ليعلن النصر في 30 آب. ولكن من دون أن يتمكن من الإحتفال بهذا النصر. فقد تولى “حزب الله” التفاوض مع مسلحي “داعش” المحاصرين قبل ترحيلهم إلى منطقة البوكمال على الحدود السورية العراقية بعد أن احتجزتهم قوات التحالف الأميركي وسط الصحراء بالنار من الجو. سقط للجيش في هذه المعركة سبعة شهداء. وقد أثبت عن جدارة في القتال وإدارة العمليات الحربية إلى الحد الذي تم اعتباره تطوراً كبيراً في قوته وقيادته وتكتيكاته بالمقارنة مع ما حصل في معركة نهر البارد.
في 20 أيار 2007 تفاجأ الجيش اللبناني أيضاً بالإغارة على عدد من مواقعه في محيط المخيم الفلسطيني في شمال لبنان واستشهاد عدد من عناصره. في تلك المواجهة، كما في مواجهة عرسال، كان هناك من يتحدث عن مؤامرة لتوريط الجيش في حروب متنقلة. معركة نهر البارد حصلت فيما كان لا يزال العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية في قصر بعبدا، بينما كانت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تمسك بسلطة القرار بعد عامين على انتفاضة 14 آذار وخروج الجيش السوري، في ظل انقسام سياسي كبير نتج عن الخلاف حول المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري وعن تداعيات حرب تموز 2006 واستقالة الوزراء الشيعة من الحكومة، واتهام “حزب الله” لقوى 14 آذار بالتآمر والخيانة وكان العماد ميشال سليمان قائداً للجيش. على رغم اعتبار الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أن المخيم خط أحمر فقد اتخذت الحكومة القرار وبدأ الجيش عملية القضاء على تنظيم “فتح الإسلام” بقيادة شاكر العبسي في المخيم. إذا كانت معركة عرسال حصلت في ظل الإنخراط في الحرب السورية فإن معركة نهر البارد حصلت في ظل الإنخراط في الحرب في العراق، حيث كان هناك خط مفتوح لقتال القوات الأميركية هناك بعد أربعة أعوام على إسقاط حكم الرئيس العراقي صدام حسين ومحاولة إغراق هذه القوات في حرب استنزاف. ذلك الخط العسكري الذي كان يدعم تنظيمات أبو مصعب الزرقاوي ثم أبو عمر البغدادي في “دولة العراق الإسلامية” هو الذي ساهم في خلق “الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي كادت أيضاً أن تصل إلى بغداد.
على رغم أن مخيم نهر البارد كان محاصراً وعدد عناصر فتح الإسلام كان محدوداً ومقدراً بنحو 400 مقاتل، فقد استمرت المعركة من أيار حتى 2 أيلول 2007 وقد سقط للجيش فيها نحو 170 شهيداً. كان الإنتصار في تلك المعركة مكلفاً وقاسياً وذلك لأسباب عدة أبرزها: قتال المسلحين حتى الموت وطبيعة المخيم وشوارعه الضيقة التي لم تكن تسمح بتحرك الآليات العسكرية وعدم امتلاك الجيش للأسلحة النوعية وللذخيرة، وقد استطاعت القيادة بجهود خاصة أن تطور بعض قدرات سلاح الجو لإلقاء قنابل من الطوافات وتدمير تحصينات المخيم التي تحصن فيها المسلحون.
من الوصاية إلى الحماية
خلال عشرة أعوام استطاع الجيش أن يطور قدراته من كل النواحي التسليحية والتدريبية والقتالية وربما هذا ما صنع الفرق في معركة “فجر الجرود”. ففي ظل عهد الوصاية من العام 1991 حتى العام 2005 لم يتم تطوير هذه القدرات ربما لأنه كان من المطلوب ألا يرتقي الجيش إلى مستوى الإحتراف والإكتفاء من ناحيتي العديد والتدريب والتسليح والدور، رغم أنه خاض أيضاً أكثر من معركة في تلك المرحلة عسكرياً وهي المرحلة التي اعتبرت أنها غيرت في عقيدة الجيش القتالية ووضعته تحت سلطة عهد الوصاية. من تلك المعارك مثلاً معركة “فجر الجنوب” في صيف العام 1991 التي حصلت في محيط مخيمي المية ومية وعين الحلوة من أجل إلزام التنظيمات الفلسطينية الإنسحاب من قرى شرق صيدا والعودة إلى داخل المخيمات وتسليم السلاح الثقيل. أما المعركة الثانية الأساسية فكانت في جرود الضنية في مطلع الألفية الثانية وضد مجموعات أصولية بحيث تدحرجت المواجهات من العاصون حتى كفرحبو وصولاً إلى طرابلس وأدت إلى سقوط عدد من الشهداء في الجيش وفرار عدد من المسلحين إلى مخيم عين الحلوة. وقد كانت المجموعات الأصولية في تلك المواجهة تعمل على خط القتال في أفغانستان. ومن المفارقات أن معظم المواجهات التي خاضها الجيش كانت ضد هذه الجماعات الأصولية وإن تغيرت أسماؤها وأدوارها وفقاً لتغير المكان والزمان والظروف. ولا يشذ عن ذلك ما حصل في عبرا في 23 حزيران 2013 لإنهاء ظاهرة الشيخ أحمد الأسير التي حاول عسكرتها وزجها في المواجهات الداخلية مع “حزب الله” على خلفية الخلاف حول الحرب في سوريا. وقد تكبد الجيش في هذه المعركة عشرين شهيداً من دون إغفال بعض الجولات القتالية في باب التبانة وبحنين في الشمال.
ما أدى إلى هذا الفرق في أداء الجيش اللبناني وحضوره وجاهزيته أمران أساسيان: الأول انتشاره على الحدود الجنوبية إلى جانب القوات الدولية التي تعززت بعد صدور القرار 1701 في آب 2006 وهي المرة الأولى التي ينتشر فيها نحو عشرة آلاف جندي في تلك المنطقة منذ العام 1975. ويبقى أن هذا الإنتشار يتأثر بالمهمات الداخلية الأخرى التي يقوم بها الجيش وتؤدي أحياناً كثيرة إلى الإستعانة بوحداته المنتشرة في الجنوب بالإضافة إلى الوضع الذي تعيشه المنطقة ويقتضي مداراة العلاقة مع “حزب الله”. وقد استطاع الجيش أن يثبت أنه قادر على المواجهة مع الإسرئيليين خصوصاً بعد مواجهة العديسة التي سقط فيها شهيدان للجيش في 3 آب 2010 ومواجهة الوزاني في أول آب 2011 عندما تصدى لتوغل دورية إسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية.