كتبت غادة حلاوي في صحيفة “نداء الوطن”:
منذ سنة ولغاية اليوم يواظب ذلك الشاب الذي تقدّم إلى امتحانات مراقب جوي، على زيارة مجلس الخدمة المدنية مستفسراً عن مصير قرار تعيينه. ظنّ الشاب، العائد من دبي إكراماً لوالدته المريضة، أن ورود اسمه على لائحة الناجحين سيفتح له آفاقا لمستقبل له في لبنان، قبل أن يفاجأ بأن قرار تعيينه عالق في رئاسة الجمهورية لأن نتائج المباراة لم تراع قاعدة الـ 6 و6 مكرّر. يسأل الشاب الموظفة في كل مرة يلتقيها: شو ذنبي اذا كانوا المسيحيين أقلّ؟
في المقابل كان م. ع. أكثر حظاً منه. عُيّن في الفئة الثالثة في السلك الخارجي في ملاك وزارة الخارجية والمغتربين بوظيفة ملحق متمرّن في الدرجة الأولى مع 24 من زملائه. نتائج مباراتهم صدرت في 27 شباط 2018، وتم توقيع المرسوم في 17 نيسان 2019 مع أن الفائزين موزعون طائفياً على الشكل التالي: 18 مسيحياً و5 شيعة، درزي وسني.
لم يراع مرسوم النقل والتعيين، الذي تضمّن أيضاً نقل محرّر في وزارة المالية لوظيفة فئة ثالثة إلى ملاك وزارة الخارجية التوازن الطائفي، ومع ذلك وقّعه رئيس الجمهورية ووزيرا المال والخارجية. علماً أن المعينين في المرسومين السابقين قد يرقّون مستقبلاً الى سفراء ورؤساء بعثات في الخارج، بينما حارس الأحراج في وزارة الزراعة، أو المراقب أو الرسام أو العامل أو غيرهم من موظفي الفئة الرابعة، ستنتهي مدة خدمتهم في الفئة عينها ولا يحقّ لهم الترفّع ومهامهم ليس لها أي صفة تقريرية.
يعدّ توقيع المرسوم أمراً إيجابياً طالما أنه غلّب عنصر الكفاءة على الطائفية ولكن لماذا الكيل بمكيالين في الإدارة اللبنانية، وإذا كان التعيين تمّ لملء الشواغر، فالآخرون أيضاً، مراكزهم لا تزال شاغرة في الإدارة. والسؤال هنا كيف يرضى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن يشهد عهده مثل هذا التعاطي مع المواطنين. وهل من العدل أن يتم تجميد 9 مراسيم لناجحين في مجلس الخدمة من واجب الدولة تعيينهم في المراكز التي نجحوا فيها؟ وهل يعود بنا عهد الإصلاح والتغيير إلى أربعينات وخمسينات القرن الماضي، يوم كانت الوظائف توزّع حكراً بين السياسيين وعلى الأتباع والأزلام من دون أدنى اعتبار لمعيار الكفاءة، قبل أن يرسي عهد الرئيس فؤاد شهاب أنظمة الإدارة الحديثة مثل نظام الموظفين، وإنشاء مجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة، توسلاً لمبدأ العدالة والمساواة بين المواطنين؟
شراء الخدمات
هذا التشدّد في مخالفة الدستور، تقابله مفارقة لافتة وردت في قانون الموازنة. تعطي المادة 12 من الدستور لكل لبناني حق تولي الوظائف العامة، ولا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الإستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون. غير أن هذه المادة انتهكت بفعل ما نصّت عليه المادة 80 من قانون الموازنة للعام 2019 التي منعت التوظيف القانوني والشرعي من خلال مجلس الخدمة المدنية، وأجازت التهريب الوظيفي من خلال التعاقد القائم على شراء الخدمات الذي يتسلّل من خلاله العدد الأكبر من المستفيدين، وغالبيتهم من محاسيب السياسيين.
وفي حين نصت المادة المذكورة على منع جميع أنواع التوظيف والتعاقد الجديد في الإدارات والمؤسسات العامة (…)، إلا أنها استثنت موظفي الفئة الأولى ورؤساء وأعضاء مجالس إدارات الهيئات والمؤسسات العامة والحالات الضرورية التي يقرّرها مجلس الوزراء (…)، وشراء الخدمات في حدود ما هو مقرّر في موازنة كل جهة معنية.
يقول مرجع إداري في إحدى هيئات الرقابة إنه “للمرة الأولى في التاريخ الإداري اللبناني يشرّع هذا النص “شراء الخدمات” الذي يعدّ أحد أوسع الأبواب المفتوحة أمام الزعيم السياسي أو الوزير لـ”خدمة” أتباعه ومحازبيه. يمكن من خلاله لوزير، متجاوزاً مجلس الخدمة المدنية، أن يوقّع باستنسابية عشرات عقود الشراء في السنة، ولفترات زمنية مختلفة، مقابل مبالغ قد تصل الى حدود 50 مليون ليرة سنوياً”.
تهديد دور مجلس الخدمةثلاث مخالفات جوهرية نتجت بموجب هذا النص ضمن قانون الموازنة، وهي خرق المادة 12 من الدستور، واسقاط دور مجلس الخدمة المدنية بوصفه الهيئة المناط بها مراقبة آلية تعيين الموظفين والموافقة عليه، إعادة العمل بالولاء وليس بالكفاءة.
كما أبطلت المادة 80 من الموازنة العمل بالمادة 87 من نظام الموظفين وتعديلاتها، والتي تنص على أن “الوزير يتعاقد مع لبنانيين لمدة محددة للقيام بعمل معين يتطلب معارف ومؤهلات خاصة، ضمن حدود الاعتمادات المخصصة لهذه الغاية وفي نطاق العدد المحدد فيها، وذلك بموجب مباراة يجريها مجلس الخدمة المدنية وفقا للأصول”. وهذا يعني أن ما جرى إقراره يعدّ ضرباً واضحاً لدور مجلس الخدمة، وإعادة العمل بالنظم القائمة في الإدارات قبل صدور المراسيم الاشتراعية والمؤسسة للعمل الإداري الحديث حينها في العام 1959. ولو أنه يسجّل لهذه المادة انها حفظت لمئات الناجحين في الفئتين الثالثة والرابعة في مباراة مجلس الخدمة المدنية حقهم بهذه الوظائف، التي عُطّلت نتائجها مع عدم اقتران مراسيم تعيينهم بتوقيع رئيس الجمهورية بحجة عدم وجود توازن طائفي.