كتب منبول- وان لكومب في صحيفة “الجمهورية”:
عُقد في باريس المؤتمر الاقتصادي للتنمية من خلال الاصلاحات ومع الشركات (CEDRE) في 6 نيسان 2018، بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فأشاع آمالاً كبيرة في لبنان، وجمعَ ما يقارب 11 مليار دولار كقروض بفوائد مخفّضة وهِبات. وشكّل المؤتمر فرصة لا تُفوّت للحكومة اللبنانية لإصلاح عدد من القطاعات التي فشلت في التطور، وفي إثبات نفسها شريكاً موثوقاً به على الساحة الدولية. تأتي أموال «سيدر» من حوالى 51 دولة وبعض المنظمات الدولية (البنك الدولي، البنك الأوروبي للتنمية…)، لكن لن يتم الافراج عنها إلّا بعد الوفاء بشروط محددة كانت الحكومة اللبنانية قد تعهدت بتنفيذها، تتعلّق بإصلاحات هيكلية في إدارة الحسابات العامة، وفي الحكم ومكافحة الفساد وغيرها. هذه الأموال مخصصة لتنفيذ خطة «استثمار رأس المال» (CIP)، التي وضعها رئيس الحكومة سعد الحريري وتضم نحو 250 مشروعاً للبنى التحتية والتطوير. بعد أكثر من عام أين نحن؟ وماذا يمكننا أن نستنتج؟
في ضوء ما حدث في الأشهر الأولى التي تَلت «سيدر»، من حق المرء أن يخشى على مستقبل المؤتمر. وعلى الرغم من الجهود الملحوظة التي بُذلت في الاتجاه الصحيح، اضطرّ اللبنانيون الى انتظار تأليف الحكومة ما يقارب 9 أشهر تقريباً، حتى 31 كانون الثاني 2018. بعدما فرضت الضرورات الاقتصادية على مختلف الاطراف السياسية وضع حد للنزاعات والخلافات للتوصّل الى اتفاق سياسي. هكذا بدأت حكومة الحريري الثالثة عملها، ومعها بدأ صبر شركاء «سيدر» الدوليين بالنفاد. لكنّ الحكومة كانت تتحرك، من تلقاء نفسها، بسرعة نسبية.
تنقسم خطة «استثمار رأس المال» (CIP) إلى 3 مراحل، تتعلّق الأولى بإصلاح الكهرباء وتأهيل المالية العامة للدولة وتطوير البنى التحتية، بعدما بلغ العجز العام حوالى 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2018. لذلك، التزمت الحكومة اللبنانية تجاه «سيدر» بخفض العجز تدريجاً، عن طريق زيادة الإيرادات وخفض النفقات.
إذا نجحت الحكومة في هاتين الخطوتين، يحرّر البنك الدولي 4 مليارات دولار (وهو المساهم المالي الأكبر في المؤتمر)، التي من شأنها أن تحسّن البنى التحتية، وفي طليعتها قطاع الكهرباء. وحين وافقت الحكومة اللبنانية على الخطة التي وضعتها وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني في نيسان 2018، وبعد أن أقرّ البرلمان الموازنة في 19 حزيران 2019، بادرَ البنك الدولي إلى تهنئة الحكومة اللبنانية. في الواقع، حتّى لو أُقرّت الموازنة متأخّرة 7 أشهرعن المهلة المنصوص عليها في الدستور، إلّا أنّ مدير دائرة الشرق في البنك الدولي سافور كومارجا، وصف هذه الخطوة بـ»خطوة أولى جيّدة». فكانت الموازنة بمثابة إشارة ايجابية الى نيّة لبنان التزام المطلوب منه. وبعد اتخاذ إجراءات تقشفية وإصلاحية في الموازنة، اعتُبر أنّ هذه التغييرات والاجراءات تسمح بتخفيض العجز العام من 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 7.5 في المئة. لكنّ البنك الدولي أعاد تقييم هذه الارقام، فرأى انّ العجز الواقعي سيكون 9.5 في المئة عام 2019. هذا الفرق في العجز، اعتبره البنك الدولي كافياً لبدء صرف الاموال. في موازاة ذلك، تبدو خطة بستاني لإصلاح الكهرباء خطة متينة بالنسبة للبنك الدولي، خصوصاً أنها تقضي بإنشاء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء (بهدف تحرير القطاع من هيمنة وزارة الطاقة وحصريتها، وبالتالي من الصراعات السياسية).
وتنصّ خطة الكهرباء على بناء محطتين جديدتين لتوليد الطاقة، فضلاً عن تجديد شبكة التوزيع ورفع التعرفة (التي لم تتغيّر منذ التسعينات).
إذاً، بعد انتظار طويل، أطلقت حكومة سعد الحريري كأولوية وبسرعة «خطة استثمار رأس المال»، التي تستند الى قانون مالي سليم ومُشجّع الى حدٍ ما للمستقبل. يبدو أنّ هذه الخطوة الأولى المشكوك فيها قد مرّت، أمّا الـ4 مليارات دولار من البنك الدولي فيفترض ان تبدأ بالوصول. لكن ما الذي حدث حتى أصبحنا في آب 2019 ولا يزال الوضع يراوح مكانه؟
يبدو أنّ عيوب الحياة السياسية اللبنانية عادت مجدداً لتشلّ قدرات الدولة على العمل.
كانت هناك مشكلتان تُقلقان الشركاء الدوليين للبنان، تمثّلت الأولى بتوقيع رئيس الجمهورية الموازنة، (هذه المشكلة حُلّت بالتوقيع في 31 تموز 2019)، والثانية بالتعطيل الحكومي بعد السجالات التي حصلت نتيجة حادثة قبرشمون، إذ لم تُعقد أي جلسة لمجلس الوزراء منذ 2 تموز. ويدور النقاش حول المرجعية القضائية التي يجب أن تُحال الحادثة إليها: المحكمة العسكرية أو المجلس العدلي (إختصاصه الجرائم التي تهدد السلم الأهلي وهيبة الدولة). وخلف الاختيار بين هاتين المشكلتين، تختبئ الصراعات السياسية بين الأحزاب المختلفة. إذاً، من داخل الحكومة (التي تجمع كل المتورّطين في القضية). دائماً ما تعيد هذه القضية الدولة اللبنانية إلى ممارسة أساليبها القديمة في المواجهات السياسية الداخلية، والتي تعتبر ضارّة للغاية. وإن لم تتوافر الحلول للخروج من الأزمة، قد يؤدّي عناد رئيس الحزب الديموقراطي طلال ارسلان إلى انهيار حكومة الحريري الثالثة، اذا اضطر الأخير الى السماح بالتصويت داخل مجلس الوزراء على قضية إحالة ملف قبرشمون إلى المجلس العدلي أم لا.
جدير بالذكر أنّ الدولة اللبنانية التزمت مع شركائها الدوليين تحقيق مصلحة الدولة اللبنانية ومصلحة اللبنانيين، أمّا من وجهة نظر شركائها في «سيدر»، فيبدو الوضع مشابهاً أكثر فأكثر للتقسيمات المتكررة، للمرة الألف، التي أدّتها الطبقة السياسية اللبنانية مراراً. هذه المكونات غير قادرة على التغلب على مصالحها السياسية، حتى وإن كانت المصالح العليا على المحك (في هذه الحالة، تجنّب إفلاس الاقتصاد اللبناني). المشكلة أنّ هذه الصراعات تضع في دائرة الخطر، أكثر من أي وقت مضى، الإتفاقات التي عُقدت في مؤتمر «سيدر».
من جهتها، أكّدت فرنسا، من خلال السيد بيار دوكين (المسؤول عن متابعة ملف «سيدر» في الإليزيه) والسيد برونو فوشيه (سفير فرنسا في لبنان)، أنّ استقالة سعد الحريري وحكومته خط أحمر لا يمكن تجاوزه. ورغم أن هذا الاحتمال يبدو صعب الحدوث، إلّا أنّ الضرر وقع مُسبقاً. مع هذا التباطؤ الجديد، ترسل الدولة اللبنانية صورة معاكسة لتلك التي ظهرت في «سيدر». ونكون قد انتقلنا من حكومة تَعي عيوبها وتوافق على إصلاحات طوعية، تتمتّع بنوع من الثقة، إلى حكومة متورطة في فجوات عديدة، كنّا نأمل عدم رؤيتها مجدداً.
بعد مرور سنة و4 أشهر على مؤتمر «سيدر»، تبدو المحصلة مُقلقة إذا امتدّت الحالة الراهنة لفترة أطول. وبينما أُجريت بعض الإصلاحات المشجعة والمتماسكة بعد فترة وجيزة من تشكيل حكومة الحريري الثالثة، نجد أنفسنا مرة أخرى في حالة من الشلل، بسبب الصراعات السياسية الداخلية. لكن ينبغي التذكير بأنّ الشركاء الدوليين في «سيدر» لم يلتزموا أي شيء قبل تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها. المؤتمر في حد ذاته يعتبر نجاحاً، إلّا أنّ الحكومة، وبشكل عام الطبقة السياسية اللبنانية، ستكون مخطئة إذا اعتمدت على «أمجادها». في الواقع، بدأ الشركاء الدوليون (أي الدول والمنظمات الدولية) يفقدون صبرهم، وقد يتخذون قراراً بنقل أموالهم في اتجاه استثمارات أخرى، إذا تبيّن أنه لا يمكن الاعتماد على الوضع في لبنان.
يملك لبنان المفاتيح بين يديه لجعل «سيدر» مؤتمراً ناجحاً على نحو غير مسبوق، لكن على عكس باريس 1 و2 و3، لا تملك الدولة اللبنانية هذه المرة سلطة تقريرية على الأموال التي يقدّمها الشركاء الدوليون. يتعيّن على لبنان إذاً بذل الجهود الضرورية لتخطّي مشكلاته القديمة، خوفاً من استنفاد صبر شركائه نهائياً.