كتب الان سركيس في صحيفة “نداء الوطن”:
لا يزال المكوّن المسيحي يرفع الصوت عالياً من أجل استعادة التوازن المفقود في وظائف الدولة، والذي يعود الى ما بعد توقيع “إتفاق الطائف”.
كثيرة هي المآخذ المسيحية على عملية التوظيف في الدولة، والجميع يطالب بتصحيح اللاتوازن، وتحقيق التوازن المنشود في الإدارات العامة، وهذه الصرخة المسيحيّة لا تقتصر على مؤسسة “لابورا” فقط، بل تشمل بكركي والمرجعيات المسيحية الروحيّة الأخرى، كما تشمل الأحزاب المسيحية الأساسية وصولاً الى المرجعية الأولى في الدولة وهي رئاسة الجمهورية التي أرسلت رسالة إلى مجلس النواب من أجل تفسير المادة 95 من الدستور بعد التوقيع على الموازنة.
وتظهر الأرقام الرسمية وإحصاءات مؤسسة “لابورا”، التفاوت بين الموظفين المسيحيين والمسلمين في المؤسسات والإدارات العامة.
وإذا أخذنا فئة المثبتين في الدولة، فإن 37 في المئة فقط من الموظفين مسيحيون، بينما هناك 63 في المئة مسلمون. لكن الأمر الذي يضرب التوازن أكثر هو المتعاقدون والمياومون، إذ إنه يوجد 77 في المئة من المتعاقدين مسلمون و23 في المئة فقط من المتعاقدين مسيحيون. وفي المجموع العام يكون هناك 71 في المئة من الموظفين ينتمون الى الطوائف الإسلامية و29 في المئة ينتمون الى الطوائف المسيحية.
والملفت أن هذا الإنحدار في الدخول المسيحي إلى الدولة حصل بعد إنتهاء الحرب، فقبل الحرب الأهلية كان العنصر المسيحي هو الطاغي، وعمل عدد من القادة على تشجيع المسلم للدخول إلى الدولة، وحصل الإنخراط الإسلامي الأكبر في حقبة حكم الشهابيّة.
ويروي عدد من المتابعين لمسار إختلال التوازن الوظيفي كيف وصلنا الى هذه الحال، إذ يؤكدون أن الضربة الأولى التي تلقاها المكوّن المسيحي كانت خسارته الحرب الأهليّة، من ثمّ أتى “إتفاق الطائف”، وحصلت أول إنتخابات نيابية العام 1992 وسط مقاطعة مسيحية شاملة، وما لبث أن سُجن قائد “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع ونُفي قبله العماد ميشال عون الى باريس، وشعر المسيحي بالإحباط. وكانت الفترة الممتدة من العام 1990 الى العام 2005 ضربة قاضية للوجود المسيحي في لبنان وفي الإدارات العامة على حدّ سواء، وشهدت هذه الفترة هجرة مسيحية كبيرة نتيجة الشعور المسيحي باليأس والإحباط وقدّرت أرقام المهاجرين منذ حربي “التحرير” و”الإلغاء” وما بعدهما بنحو 700 ألف مسيحي، في حين أن الدولة في تلك الفترة كانت معادية للمسيحيين، وهذه كلها أمور أثّرت على التوازن في الإدارات.
وبعد العام 2005 لم تكن العودة المسيحية كما كان يتمنّاها البعض، إذ دخلت البلاد مرحلة جديدة من الصراعات بين 8 و14 آذار، وكانت الأولوية للنزاع الأكبر الدائر في البلد وفي المنطقة ولم تكن الأولوية لإستعادة التوازن الوطني.
وبعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وإقرار قانون الإنتخاب القائم على أساس النسبية، ظن المسيحيون أن الوضع تغيّر ليتفاجأوا بأن الشراكة على مستوى القاعدة لم تتحقّق، مثلما تحققت الشراكة على مستوى رأس الهرم.
وفي نظرة إلى الواقع الجديد، يكتشف من يعمل على ملف إعادة التوازن الى الدولة أن الإختلال كبير، وخصوصاً على مستوى عناصر الجيش اللبناني بينما التوازن مؤمّن على مستوى الضباط وكبار القيادات، والأمر نفسه ينطبق على بقية الأجهزة الأمنية، وكذلك فإن عدداً كبيراً من الوزارات يعاني من الإختلال في التوازن، ولا يوجد في بعض الإدارات أكثر من 20 في المئة من الموظفين المسيحيين، وهذا كله يعود الى تراكمات السنوات الماضية التي كانت مجحفة بحقّ الوجود المسيحي في الدولة والتي قضت على ما يعرف بالتوازن وأسّست لمرحلة الهيمنة الإسلامية على معظم الإدارات.
ومن يتابع هذا الملف يرى أن المشكلة اكبر بكثير، وهي تدخل في صلب التوازن الوطني خصوصاً أن الإنتخابات النيابية الأخيرة التي جرت على أساس النسبية أظهرت التفاوت بين عدد الناخبين المسلمين والمسيحيين، وهذا الامر ينعكس ايضاً على عدد السكان، فقد بلغ عدد الناخبين المسلمين نحو 63 في المئة، بينما بلغ عدد الناخبين المسيحيين نحو 37 في المئة فقط، ويحصل كل هذا الإختلال بينما سنّ الإقتراع هو 21 عاماً، فلو خُفّض الى الـ18 عاماً لارتفع منسوب التفاوت.
ومن جهة ثانية، يُسجّل عدم رغبة مسيحية في الدخول إلى بعض الإدارات في الدولة، وهذا يظهر جلياً ولا سيما في الجيش حيث ان القيادة تفتح باب التطوع للمسيحيين كعناصر لكنهم لا يقدمون على التطوّع، كما أن العقلية المسيحية تحجم عن الدخول الى بعض الوظائف في الدولة وهذا الأمر يتسبّب باختلال في الميزان الذي هو مختلّ أصلاً.
ويوجد إنسجام كبير حالياً بين بعبدا وبكركي لناحية معالجة الخلل في التوازن القائم، إذ إن رئاسة الجمهورية تعرف أن الخلل قائم لكن المشكلة تكمن في طرق معالجته.
ومن بين الطرق السليمة في معالجة الخلل، إدخال أعداد من الموظفين المسيحيين إلى الإدارة، لكن هذا الأمر من الصعب أن يتمّ في الظرف الحالي لأن الإدارات تضيق بالموظفين، وإدخال أي موظّف في هذا الوقت يعتبر حشواً، بينما الأساس هو القيام بإصلاح إداري وليس اتباع طريقة التوظيف العشوائي الذي يُغرق البلد أكثر وأكثر.