بعد الانسحاب السوري من لبنان، بدأ حزب الله عملية ملء الفراغ السوري ودخل للمرة الأولى طرفا رئيسيا في اللعبة الداخلية، لإدارة الوضع والإشراف عليه عن كثب في المجلس النيابي وفي الحكومة.. بعد حرب يوليو 2006، نفذ حزب الله عملية ارتداد الى الداخل اللبناني لمحاسبة خصومه الذين انضووا في إطار تحالف 14 آذار، فكانت أحداث 7 أيار واتفاق الدوحة الذي شكل أول اختراق في مسيرة الطائفوتحوير في مساره التطبيقي.. وبعد انفجار الأحداث والحرب في سورية، لم يجد الحزب بدا من الانخراط فيها، ليس فقط للدفاع عن النظام السوري الحليف، وإنما للدفاع عن نفسه ومشروعه ومكتسباته في لبنان، لأن سقوط نظام الأسد كان سيؤدي الى سقوطه في لبنان.
وطيلة فترة الحرب السورية التي لم تنته فصولا بعد، عمل حزب الله، المنهمك في دور جديد وغير محسوب كلاعب إقليمي، على ضبط الساحة اللبنانية والحؤول دون حدوث تغييرات أو مشاكل فيها. ولذلك كانت حقبة جمود سياسي وتمديد نيابي وفراغ رئاسي حتى العام 2016 عندما تمكن حزب الله أخيرا من إيصال حليفه العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية.. هذا التطور شكل نقطة تحول في مسيرة الحزب السياسية وفي دوره الداخلي. فقد غادر مرحلة الرئيس التوافقي «الضعيف» ودخل مرحلة الرئيس الحليف «القوي». أشرف على عملية الانتقال من النظام الأكثري إلى «النسبي» في قانون الانتخابات كنقلة أولى نوعية أتاحت له الحصول مع حلفائه على أكثرية تجاوزت عتبة الـ 70 نائبا، كما أتاحت له تجاوز حكومة الثلث المعطل الى حكومة له فيها مع حلفائه أكثرية تكاد تصل إلى «الثلثين». وصل حزب الله الى أفضل وضع له في الحكم بالقدر الذي تسمح به قواعد النظام الطائفي وتوازناته. ومع ذلك، فإنه لم يستخدم فائض القوة لديه لفرض سيطرة مكشوفة و«فجة»، وإنما بادر الى «سياسة استيعابية مرنة» عبر التكيف مع نظام الطائف والانخراط بشكل أوضح وأفعل في الدولة وطرح المسائل التي تهم الناس وتتعلق بأمنهم الاجتماعي، وهذه السياسة ترجمت في الخطوات والمبادرات التالية:
٭ إعلان معركة مفتوحة ضد الفساد بإشراف شخصي من السيد حسن نصرالله الذي أعطى انطباعا بأن الفساد بات خطرا وجوديا، والقرار المتخذ لمكافحته هو قرار استراتيجي لا يقل أهمية عن قرارات مقاومة الاحتلال ومحاربة الإرهاب.
٭ الإعلان عن برنامج إصلاحات اقتصادية واجتماعية يتضمن تطوير القانون النسبي الحالي واعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة، واستحداث وزارة تخطيط، وتعزيز دور الهيئات الرقابة.. إلخ.
٭ إبداء الاستعداد للبحث في الاستراتيجية الدفاعية عندما يدعو الرئيس عون الى حوار وطني ويرى الوقت مناسبا.
٭ الدخول المباشر على خط ملف عودة النازحين السوريين، والمساهمة في توفير ظروف العودة وإزالة معوقاتها بالتنسيق مع دمشق.
٭ دعم عملية ترسيم الحدود البحرية والبرية مع إسرائيل، على أساس موقف لبناني تفاوضي موحد ومتماسك.
٭ دعم الخطة الأمنية المستدامة التي أعلنها الجيش اللبناني لمنطقة بعلبك ـ الهرمل، وقدم نفسه على أنه له مصلحة في إنهاء الوضع الشاذ هناك، وأنه المستفيد من تبديد هذا «الانطباع ـ الاتهام» بأنه يغطي الوضع ويوظفه لمصلحته.
٭ تغيير في الأداء السياسي: يعطي ثقته وأصوات نوابه لحكومة الحريري وللمرة الأولى يفعل ذلك/ يبين عدم الانتماء الحزبي لوزير الصحة جميل جبق في معرض الإثبات بأن الحكومة ليست حكومة حزب الله/ يقدم اعتذارا عن خطأ ارتكبه أحد نوابه نواف الموسوي ويتخذ في حقه تدبيرا مسلكيا/ يؤكد التزامه باتفاق الطائف نافيا كل ما يقال عن مثالثة ومؤتمر تأسيسي/ يرفع مستوى مشاركته في الدولة، يشارك في رسم سياستها وصنع قراراتها وموازنتها التي صوت لها للمرة الأولى، ويبدي رغبة في دخول الإدارات وتقاسم الحصة الشيعية مع «أمل» للمرة الأولى/ يوسع نطاق انفتاحه على القوى السياسية ويفتح خطوطا حتى مع الخصوم والشركاء في الحكومة.
٭ دعم واضح للتسوية الرئاسية ـ السياسية ولطرفيها الأساسيين: رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري، والتصرف من خلفية أنهما مستمران حتى نهاية العهد: يبقيان معا أو يذهبان معا.
مجمل هذا السلوك السياسي طرح تساؤلات عن مغزاه وعن الأسباب التي تدفع حزب الله الى اتباع هذا النهج «الاستيعابي»، والى إجراء تغيير في مقاربته للملفات والعلاقات.. وفي الواقع، فإن جملة عوامل وأسباب دفعت الحزب في اتجاه هذه السياسة الجديدة وأبرزها:
1 ـ الواقع والتوازن السياسي الجديد في الحكم والدولة الذي بات راجحا لمصلحته ويدفع به الى الظهور على المسرح، بحيث لم يعد يكفيه اللعب وتحريك الخيوط من خلف الستارة.. والى اتباع الطرق السياسية في التوسع.
2 ـ الواقع الاقتصادي الاجتماعي الذي لم يعد بإمكانه التغاضي عنه ولا تجاهل انعكاساته السلبية على جمهوره وبيئته أولا، ولا تجاهل حالة التململ داخل المجتمع الشيعي الذي أنهكته الضغوط الاجتماعية والاقتصادية أكثر مما أنهكته الحروب.
3 ـ الواقع الإقليمي الذي يشهد تطورات متسارعة ويضغط باتجاه خروجه من سورية وعودته الى لبنان عاجلا أو آجلا، فكان أن بدأ حزب الله بالاستعداد «لمرحلة ما بعد الحرب السورية» بتحصين الجبهة الداخلية وتحسين موقعه، ودوره فيها، والتصرف ليس فقط كتنظيم عسكري و«كمقاومة» وإنما أيضا كقوة شعبية سياسية باتت جزءا لا يتجزأ من النسيج اللبناني السياسي والاجتماعي والاقتصادي ومكونا أساسيا من مكونات النظام والدولة.
4 ـ الواقع الدولي الذي يضغط عليه عبر عقوبات أميركية أوقعته في «ضائقة مالية»، وتصنيفات أوروبية وعربية «إرهابية» أوقعته في حصار ديبلوماسي وشوهت صورته، إضافة الى التهديدات الإسرائيلية والمواجهة الأميركية ـ الإيرانية المفتوحة. وكل ذلك يجعله في حاجة الى جبهة متراصة والى بيئة لبنانية حاضنة له.
هذه التغييرات من جانب حزب الله داخل لبنان واكبها اهتمام وترقب دولي لما يجري. وهذه المواكبة تتم بطريقة إيجابية، بمعنى أن المجتمع الدولي وخصوصا الأوروبي يشجع على هذه السياسة وعلى انخراط أكبر وأفعل من جانب حزب الله في الدولة اللبنانية، يجعله معنيا أكثر بالاستقرار وأقل تطرفا وتشددا وأكثر واقعية وبراغماتية في التكيف مع الواقع اللبناني ومع معادلة الاستقرار الداخلي والإقليمي. ولكن استراتيجية حزب الله الجديدة في التدخل لإدارة الأزمات والحلول تثير تساؤلات وهواجس في الداخل ولدى خصوم الحزب الذين يرون أنه، وتحت ستار الإصلاح ومكافحة الفساد، يتدخل في كل شيء ليصبح مقررا ومتحكما بمفاصل السلطة وقرار الحكومة.. وأنه بحجة الأزمة الاقتصادية يبرر تدخله في رسم السياسات المالية وفي أن يكون شريكا في القرار الاقتصادي والمالي، وأنه بسبب الضغوط والعقوبات التي وضعته في ضائقة مالية وديبلوماسية يريد الاحتماء بالدولة وفرض سيطرته عليها بشكل منهجي وعبر الطرق السياسية، لأخذ ما يتناسب مع حجمه الواقعي وما لم يعطه إياه اتفاق الطائف.
يتوقف خصوم حزب الله عند «سلبيات» حزب الله التي ارتفعت وتيرتها هذا العام: تدخله الفاضح في شؤون الطائفتين الدرزية والسنية وتحقيق اختراق سياسي مزدوج من خلال فرض تمثيل لحلفائه في هاتين الطائفتين داخل الحكومة/ إضعاف رئيس الحكومة سعد الحريري الموضوع تحت رقابة سياسية واقتصادية مشددة/ جر لبنان الى متاهات إقليمية عبر التورط في المواجهة الأميركية ـ الإيرانية والتهديد بالرد في حال هوجمت إيران، وفي الصراع السعودي ـ الإيراني الذي يترجم على ساحة اليمن. حزب الله لا يأبه لهذه الاعتراضات ويمضي قدما في خطة إعداد ترتيبات المرحلة المقبلة، المرحلة الجديدة المحكومة من الآن بهاجس ما بعد العام 2022 الذي يشهد تباعا نهاية رئاسة بري لمجلس النواب ونهاية ولاية عون في رئاسة الجمهورية. من الواضح أن حزب الله لن يكون تصرفه وتعاطيه على الساحة الشيعية بعد بري ومن دونه، مثلما كان مع بري وعلى أيامه.. ولن يعطي الرئيس الجديد أيا يكن ما أعطاه للرئيس عون من دعم وثقة.. وأما في الاستحقاق الرئاسي، فإن حزب الله لم يقل كلمته ولديه كل الوقت ليقولها، ولم يعط وعدا نهائيا لأحد، وليس لديه التزامات تجاه أحد. وأما النقطة الحاسمة والواضحة لديه، فهي أنه يريد رئيسا حليفا وليس من مكان عنده للرئيس التوافقي والوسطي، ليس فقط لأن توازنا يجب ان يحصل على مستوى السلطة التنفيذية بين رئيس حكومة من 14 آذار ورئيس جمهورية من 8 آذار، وإنما لأن الحاجة الى رئيس جمهورية موثوق به تصبح أكبر بعد خروج نبيه بري من المشهد والمعادلة، ولأن اللعبة الفعلية هي على طاولة مجلس الوزراء وليست في مجلس النواب.