كتب ألان سركيس في صحيفة “نداء الوطن”:
ظاهرة غريبة تضرب المجتمع اللبناني، إنها ظاهرة الانتحار التي كانت تصيب الشباب بشكل عام وباتت تضرب كبار السن أيضاً، وفي السياق تطرح تساؤلات عدّة عما يحصل ولماذا هذا الإرتفاع في أرقام المنتحرين في الأعوام الأخيرة؟ وما الدوافع؟ وكيف تنظر الديانة المسيحية إليها، خصوصاً ان من بين المنتحرين أخيراً منتمياً إلى الإكليروس.
يتناقل اللبنانيون قصصاً وروايات عن نسب الإنتحار المرتفعة في بعض بلدان أوروبا الغربية وخصوصاً في سويسرا والسويد، فالإنسان هناك يشعر أنه بلا قضية، فكل شيء مؤمّن له، ولا يوجد ما يكافح من أجله، أو يسعى للوصول إليه. ربما ينتحر مللاً من الرخاء!
في لبنان الأمر مغاير تماماً والأسباب متنوعة، منها النفسي والمادي وقصة جورج زريق ماثلة أمامنا. فقد أقدم على الإنتحار حرقاً في باحة مدرسة سيدة بكفتين ـ الكورة أمام مدرسة أولاده ( شباط 2019) نتيجة عدم قدرته على دفع أقساط ولديه. والمفاجأة أمس الأول كانت مع شيوع خبر انتحار رئيس بلدية مار شعيا المزكة – برمانا الأب إيلي نجار المنتمي إلى الرهبانية الانطونية، وعُزي سبب انتحاره إلى إضطرابات صحيّة ونفسيّة، ليطرح السؤال الأكبر إلى أين يتجه مجتمعنا، خصوصاً إذا كان رجال الدين ينتحرون، وهؤلاء يفترض أن يكونوا مرشدين للشباب ويساعدوهم على التغلب على مصاعب الحياة؟
الأرقام تتكلّم
وفي نظرة إلى أرقام المنتحرين بحسب إحصاءات قوى الأمن الداخلي التي حصلت “نداء الوطن” عليها، فقد سُجّل العام 2015، 138 حالة انتحار، وفي العام 2016 سُجلت 128 حالة، وفي العام 2017 سُجلت 143 حالة، وفي العام 2018، سُجلت 155 حالة، وبلغ عدد المنتحرين منذ بداية العام 2019 حتّى لحظة كتابة هذا المقال 110 حالات انتحار. والعدد الرسمي لا يعكس واقع الحال، فإحدى الجمعيات أشارت على سبيل المثال الى أن عدد المنتحرين العام 2018 بلغ 200 حالة، وسبب التضارب في الأرقام مرده أن عدداً كبيراً من الحالات لا يوثّق.
وفي السابق، كان يعرف، أن المسيحي الذي ينتحر لا تقام جنازته في الكنيسة، لكن منذ مدّة تغيرت نظرة الكنيسة إلى المنتحرين، فماذا حصل، وما هي الاسباب التي تقف وراء هذه التغيرات، ولماذا كُسرت الأعراف السابقة؟
الكنيسة وعلم النفس
في سياق استطلاعنا لمواقف الكنيسة على مختلف مذاهبها، يؤكّد راعي أبرشية جبيل المارونية المطران ميشال عون لـ”نداء الوطن”، أنه لا يوجد أي دين يقبل بالإنتحار، لأن الإنتحار هو جريمة قتل الإنسان لنفسه، ففي السابق لم تكن الكنيسة ترضى أن يُصلّى على المنتحر، وتعتبر أن ما فعله بروحه هو خطيئة قاتلة.
ويلفت عون الى أنه “في السابق لم يكن هناك من فهم كاف للعلوم النفسية في الكنيسة، وبعد كل التطورات أدركت الكنيسة وجود سبب قويّ يدفع الإنسان إلى الإنتحار، وخصوصاً حالته النفسيّة حيث يكون قد وصل إلى مراحل متقدّمة من اليأس والكآبة والحزن وغير قادر على الخروج منها”.
ويضيف: “لهذا السبب يعتبر الإنسان المنتحر مسلوب الإرادة وحالته النفسية مدمّرة، لذلك تفهمت الكنيسة المارونية مثل هكذا أوضاع واعتبرت أن من يقدم على الخطيئة ويحاسب يكون بكامل وعيه، أما الذي يصل إلى مرحلة الإنتحار فهو فاقد الوعي، لذلك، باتت الكنيسة تصلّي على المنتحر”.
ويشير عون الى أن “الكنيسة كانت تساوي بين من يقدم على قتل الآخر وبين من يقتل نفسه، فمن يقتل غيره قادر على التوبة، لكن المنتحر ليس لديه وقت للتوبة وهذا كان يعتبر جرماً وخطيئة كبيرة، قبل أن تتضح حقيقة الأسباب النفسية للإنتحار”.
ولا تنكر الكنيسة تزايد عدد المنتحرين، وفي السياق، يشدد عون على أن الكنيسة “تحاول المساعدة قدر الإمكان، لكن ثمة أسباباً مرضية للإنتحار وأسباباً مالية، مثلاً، لذلك تعتبر الكنيسة أن أعظم رسالة قدّمها المسيح للبشرية هي الآلام على الصليب لخلاص البشرية، ويجب على المسيحي المؤمن التمثّل بالسيد المسيح وعدم الإقدام على الإنتحار”.
ويلفت عون الى ان “هناك بعض الدول الأوروبية والغربية شرّعت القتل الرحيم، أي إنها تنهي حياة إنسان مريض ومتألم، لكن هذا الأمر لا ينطبق على عالمنا المشرقي”.
ولا ينكر المطران عون أن “هناك أسباباً أخرى غير النفسيّة للإنتحار، مثل أن يفقد إنسان ثروته وتتراكم ديونه ويصبح غير قادر على مواجهة الواقع، لذلك يقدم على الإنتحار، كما ان الظلم الإجتماعي يؤدي الى حالات كهذه، لكن هذا الامر على قساوته لا يبرر الإنتحار خصوصاً أن هناك حقاً يقع على الشخص كمثل عدم قدرته على إدارة أموره، لكن رغم كل ذلك فان الكنيسة توعّي الناس وتدعوهم الى التشبث بالحياة وعدم الإقدام على الإنتحار”.
المرض النفسي والجسدي
وتتفق معظم المذاهب المسيحية على هذه النظرة للإنتحار، إذ إن المنتحر الذي فقد حياته باتت تجوز عليه الصلاة والرحمة، وهذا الأمر اتُّخذ بعد معاناة كبيرة كان يعانيها أهل المنتحر الذين كانوا محرومين من الصلاة على إبنهم.
وفي سياق الحديث مع المرجعيات الروحية المسيحية، يؤكّد راعي أبرشية صيدا ودير القمر للروم الكاثوليك المطران الياس حداد لـ”نداء الوطن” أن “الإنتحار ناجم عن حالة ضعف نفسيّة، وباتت الكنيسة تصلّي على المنتحر على اعتبار أنه مريض نفسي، ومثله مثل المريض الجسدي الذي يتوفّى بسبب مرضه”.
ويشدّد على أن “إدخال الكنيسة للعلوم النفسية والإستعانة بها ساعدت على فهم حالة المنتحر الذي هو مسلوب الإرادة ومريض نفسياً وهناك أمور كثيرة يفتقدها دفعته الى هذه الحالة”.
ويردّ حداد حالات الإنتحار المتكاثرة في مجتمعنا إلى “التعب النفسي الذي يعانيه معظم أفراد المجتمع بسبب المشاكل التي لا تعدّ ولا تحصى، وأبرزها البطالة، الفقر، الإحباط، فقدان الطموح عند الشباب”. وتحاول الكنيسة معالجة هذه الظاهرة قدر الإمكان باعتماد التوعية الدينية والإضاءة على الإيمان المسيحي الذي يرفض ظواهر كهذه، لكن حداد يوضح أن “الكنيسة لا تستطيع أن تحل مكان الدولة، لأن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على عاتق الدولة من حيث تأمين وظائف للشباب وتلبية طموحاتهم وبناء دولة المؤسسات والقانون، وتحاول الكنيسة قدر الإمكان سد هذه الثغرات لكن لا يمكنها لوحدها فعل هذه المهمة”.
لا تفرقة
يعاني الشعب اللبناني من المشاكل ذاتها، ولا يمكن فصل المسلم عن المسيحي في مسألة الإنتحار، إذ إنّ الإنتحار يشمل الجميع، ويحمّل البعض إرتفاع النسبة إلى المشاكل الإقتصادية والإجتماعيّة التي تضرب لبنان.
لكنّ البعض يرى أن هذا الأمر غير صحيح لأن هناك أناساً أثرياء يقدمون على الإنتحار بسبب مشاكل عاطفيّة مثلاً، وهنا يتفق الجميع على أن لا دين أو وطن أو طبقة إجتماعيّة أو عرقاً للإنتحار، بل إنه حالة جماعية يمكن أن تمرّ على أي إنسان أينما وجد.
وتحاول الكنيسة مساعدة الشباب قدر الإمكان، لكنها في المقابل ترى أن الإبتعاد عن الدين وإتباع نمط الحياة المادية الرخيصة قد تدفع بعدد من الشباب إلى الإنتحار، خصوصاً أن مجتمعنا الشرقي ليس مهيّأ لبعض أنماط الحياة، في حين انه يوجد من يستغلّ حالات الشباب هذه ويدخلهم في أنفاق مظلمة تدفعهم إلى تعاطي المخدرات، وإدخالهم في أعمال قذرة توصلهم في النهاية إلى الإنتحار.
الروح عطيّة الله
ولا تختلف النظرة إلى الإنتحار بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والكنيسة الكاثوليكيّة، إذ إن الإنتحار واحد.
وكما عند الكاثوليك كذلك عند الأرثوذكس، حيث يؤكد المطران دانيال كورية “أننا في السابق كنا نعتبر كأرثوذكس أن الإنتحار هو جريمة قتل الإنسان لنفسه، فالروح أعطاها الله ووحده من يملك الحق باستردادها، وكنا لا نصلي على المنتحر في الكنيسة”.
ويتابع: “المنتحر لا يُعذب نفسه فقط بل يعذب أهله معه، وبالتالي لا يمكننا أن نزيد فوق عذاب الأهل ولوعتهم على إبنهم عذاب عدم الصلاة عليه في الكنيسة، لذلك بتنا نعتبر أن المنتحر، إنتحر وهو فاقد للوعي، وهذا التبرير قمنا به بعد التطور في الكنيسة، إذ لا يمكننا أن نقول لأهله لا يجب الصلاة على ابنكم خصوصاً أن الدين المسيحي يتطور”.
ويشير كوريّة الى أن “الصلاة على الميت ليست من أسرار الكنيسة لذلك يمكننا ان نصل إلى فتوى ونسير بها ونصلّي عليه”.
قصص كثيرة وروايات يتداولها الأهل والأصحاب عن حالات ومحاولات إنتحار، منهم من نجوا منها، وحالات أخرى كان الموت هو المصير المحتّم، لكن في كل ذلك، لا يمكن للكنيسة لوحدها أن تكون هي الدواء لداء يضرب المجتمع، بل إن الدواء يبدأ من البيئة التي يعيش فيها الإنسان وصولاً إلى المجتمع ككلّ كما تتحمّل الدولة التي لا تؤمّن لأبنائها حياة كريمة القسط الأكبر من الذنب.