كتبت نوال نصر في صحيفة “نداء الوطن”:
لبنان الرسالة، الذي مشى على أرضِهِ يسوع المسيح، وقام بشفاءات عجائبية، وتوجد فيه أعلى نسبة للمسيحيين في العالم العربي، زارته السيدة العذراء، وزُرعت أرضه، على اسمِها، بالكنائس. 1300 كنيسة في لبناننا الجميل على اسمها و3000 مذبح. ولبنان، كُلّ لبنان، الذي تطفو فيه الخلافات حول أشياء كثيرة، يتعبّد للعذراء. واليوم، في عيدِها، دعونا ننسى كُلّ الخلافات ونتلو معاً: السلام عليك يا مريم يا ممتلئة نعمة الربّ معك، أو لنصلّها بالسريانية “شلاما لخ”. فما حكاية لبنان، بالتفصيل، مع مريم العذراء؟ ولماذا كُلّ هذا الحب فيه، من أقصاه الى أقصاه، لـ”أميرة البلاد الكبرى”؟ وماذا عن أولى الكنائس باسمِ العذراء؟
«سيدة النهر» هي الكنيسة الأولى التي بناها المسيحيون البيارتة قرب المرفأ، شفيعة لعاصمتهم، مطلع القرن الرابع. إقصدوا المدينة اليوم، في عيد انتقال العذراء، وارفعوا الصلاة الى نهرِ أمان لا ينضب. «سيدة العطايا» هي ثاني كنيسة بناها أهل العاصمة وتوالى بعدها بناء كنائس العذراء في بيروت وبينها: «سيدة الدخول» و»سيدة الإنتقال «و»سيدة الأيقونة العجائبية» في الأشرفية و»سيدة الوردية» و»سيدة النياح»في رأس بيروت وسيدة البشارة في مناطق الجعيتاوي والمتحف والسوديكو وزقاق البلاط و»سيدة النجاة» في المدوّر ورأس النبع. ومن كنائس بيروت القديمة كنيسة للشهداء الأربعين، كانت تقع غرب كاتدرائية مار جرجس، قرب التياترو الكبير، وبقي منها الى اليوم أعمدة مع درج الأربعين الذي كان يؤدي إليها. وهذا الدرج كان يؤدي الى خارج سور بيروت ويعرف «بطريق الأربعين».
لكن لماذا كل هذه الأسماء باسمِ العذراء؟
مطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس جورج صليبا يقول: السيدة العذراء هي الأنثى الوحيدة في الكون التي تدعى «السيدة العذراء». ولنا في برج حمود كنيسة باسمِها. وفي العطشانة أيضا وفي زحلة. وفي كلِ كنائسنا أيقونة للعذراء ومزار يقصده المؤمنون. ويضيف: بالنسبة إلينا العذراء هي والدة الله ونرفض أي تسمية أخرى. والدة الإله لأنه إله تجسّد. ونحن نتعبدُ للعذراء ونطلب شفاعتها لكننا لا نسجد إلا للربّ وحده. ومريم في السريانية تعني السامية. وفي العربية هي «علياء»، أي هي «العالية السامية».. هذه هي العذراء التي نكرمها ونحبها ونطلب شفاعتها. ونحتفل بعيدِها في 15 آب، وفي 15 أيار نحتفل بعيد السيدة العذراء لبركة السنابل والثمار. هي في المسيحية في مقام الألوهة والقديسين وهي السماء الثانية. أما يسوع فهو من نزل من السماء العالية.
السيدة العذراء لها المقام الأسمى في الكنائس الأرثوذكسية لكن العبادة للربّ وحده.
ماذا عن السيدة العذراء في الكنيسة الكاثوليكية؟
مطران بعلبك- دير الأحمر حنا رحمة ينظر الى الأسماء الكثيرة التي تسمى بها السيدة العذراء ويقول: العذراء واحدة، لكن ثمة أماكن تأخذ العذراء أسماءها فنقول: سيدة بشوات وسيدة إهدن وزحلة والحصن… وهناك «طلبة العذراء» التي فيها صفات كثيرة مثل سيدة الغسّالة في القبيات وسيدة الزروع والحصاد والبزاز… تستغربون لماذا سُميت «سيدة الغسالة» في القبيات؟ تتناقلُ الأجيال هناك أنه كانت توجد قناة لمياه الريّ قرب المزار وفي أيام السبوت كانت النساء يتجمعن ويغسلن الثياب وينشرنها على الصخور وعند العصر يرجعن الى بيوتهن سعيدات. وصرن يقلن لبعضهن كل يوم سبت «يللا نروح ع الغسالة». وهكذا اكتسب مزار العذراء هذا الإسم «فمثلما تزيل المياه الأوساخ عن الملابس كذلك تساعدنا العذراء بشفاعتها على غسل خطايانا».
نعود لنسأل المطران رحمة: ماذا عن العذراء في الكنيسة الكاثوليكية؟ يجيب: هي أم الكنيسة وأم المؤمنين وهي الأم الموجودة في كلِّ مكان. ويستطرد: كانوا يسمون قديماً «الزلمي» باسم مكان ولادته وليس عائلته. شربل البقاع كفري مثلاً، أي الآتي من بقاع كفرا، وهكذا ولدت عائلات البشراوي الآتين من بشري والحدشيتي الآتين من حدشيت. وطُبقت هذه القاعدة على اسم العذراء فباتت سيدة البرج في دير الأحمر لأن مزارها شُيّد هناك قرب برج روماني. ويضيف: الناس يحبون العذراء وينذرون لها ويأخذون من كنائسها، على اختلاف مللهم، الزيت والخيط والبخور. وهذا أمرٌ متعارف عليه في البقاع.
انتقلت العذراء في 15 آب. فهل يصحّ أن نعايد بعضنا بالقول «حقاً انتقلت» مثلما نقول يوم قام المسيح «المسيح قام»؟ يجيب المطران رحمة: فلنقل: المجد لله كما كان مارشربل يُحب أن يقول وكما تعارف الرهبان على توجيه السلام.
العذراء حقاً انتقلت. لكن ماذا عن الكنيسة الأرثوذكسية؟ هل هي مع طبيعة هذا الإنتقال؟ يجيب كاهن رعية الظهور الإلهي في النقاش الأب سمعان أبو حيدر: نحن نحتفل بميلاد العذراء في الثامن من تشرين وبعيد رقادها في 15 أيلول. نحن نقول رقاد العذراء والدة الإله مريم بينما الموارنة يقولون «انتقال العذراء». نحن نقول ماتت العذراء مثل البشر ثم نقلها ابنها بينما يقول الموارنة هي انتقلت مباشرة. وهناك أيقونة عند الأرثوذكس تعكس صورة سيدة مكفنة بالأبيض والمسيح يحملها. لذا نسمي كنائسنا سيدة البشارة أو صيدنايا أو رقاد العذراء أو دخول السيدة الى الهيكل.
مدة صيام العذراء 15 يوماً ويوازي صيام عيد القيامة عند يسوع ويشرح الأب أبو حيدر: «لأنه يوم موتها تم نقلها من الموت الى الحياة والمجد الإلهي من دون دينونة». ويسمح في صوم العذراء عند الكنيسة الأرثوذكسية بتناول السمك ما عدا يومي الأربعاء والجمعة. والسؤال، لماذا صوم الكنيسة الأرثوذكسية يبدو قاسياً قليلاً؟ يجيب الأب أبو حيدر: نحن نحث المؤمنين على الصوم لأننا نعتبر أن الإنسان يهدي نفسه عبره وهو وسيلة وليس هدفاً ليُجاهد ضد الرغبات والإنتصار على رغبة الطعام لكن الصوم وحده لا يكفي فهناك الى الصيام عن الطعام الصلوات والعطاء وهو سمح بوصول مئات آلاف المؤمنين الى مصاف القديسين.
العذراء انتقلت في عيدها من الحياة الى الحياة لأنها أم الحياة.
الباحث المتخصص في العلوم الدينية الدكتور جان صدقة أرّخ كنائس السيدة العذراء في لبنان. ومن أبحاثه كثير من التفاصيل التي تستحق أن تروى.
يضمُّ قضاء كسروان- الفتوح 155 معبداً للسيدة العذراء، ما بين كنائس وأديرة وكابيلات، من أصل 500 معبد في القضاء، بينها 50 على اسمِ يسوع المسيح و295 تحمل أسماء القديسين ومزارات كثيرة من مختلف المساحات وأبرزها مزار سيدة لبنان في حريصا.
ويتشكّل قضاء عاليه من 76 بلدة تضمّ 48 معبداً ومقاماً للسيدة العذراء، من أصل أكثر من 200 كنيسة تتوزع على 60 بلدة مسيحية أو مختلطة. أما قضاء بعبدا فيتشكل من 69 بلدة تضمّ 50 ديراً وكنيسة ومقاماً مخصصة للسيدة العذراء، من أصل 180 معبداً تتوزع على 52 بلدة مسيحية مختلطة، يُضاف إليها أكثر من 36 مزاراً كبيراً ومئات المزارات المتوسطة والصغيرة الحجم.
ننتقل الى قضاء الشوف حيث يتشكل من 105 بلدات، تضمّ 70 كنيسة ومقاماً للسيدة العذراء، من أصل 254 معبداً تتوزع على 74 بلدة مسيحية أو مختلطة. ويقول الباحث جان صدقة: تبدو شفاعة العذراء كبيرة، مميزة، في هذا القضاء، ففي دير القمر وحدها بنى الأهالي ست كنائس على اسم العذراء من أصل عشر كنائس، ولُقبت التلة منذ العصور الغابرة «سيدة الشوف». وغالبية كنائس السيدة في القضاء أثرية حيث وجدت في مجدل معوش منذ مطلع القرن السابع عشر، بناها البطريرك يوحنا مخلوف الإهدني العام 1609. وفي بلدة جون، بنى الأهالي كنيسة سيدة البشارة في أواخر القرن السابع عشر. وفي دير المخلص، شيّد الرهبان الباسيليون المخلّصيون كنيسة ميلاد السيدة العذراء العام 1727، وبنوا في جوارها مقاماً باسمِ سيدة الوعرة العام 1737 وكنيسة سيدة البشارة العام 1753 وفي بيقون العام 1901. وفي بيت الدين بنى المطران أغسطين الماروني كنيسة سيدة الخلاص العام 1939. وهناك كنائس على اسم العذراء في الجية والبرجين وحصروت والدامور والزعرورية وعماطور وعين الحور… والتكريسُ يتواصل، حيث بنيت العام 2009 كابيلا بشفاعة سيدة الحقول في الدبية، وتبنى حالياً كنيسة في عميق على اسم سيدة العطاء.
من جهته، يتشكل قضاء زحلة من 43 بلدة تضمّ 34 ديراً وكنيسة ومقاماً للعذراء، من أصل 121 معبداً تتوزع على 29 بلدة مسيحية أو مختلطة. ووضع مسيحيو قضاء زحلة قراهم وبلداتهم في حماية السيدة العذراء. فهي السيّدة في كلّ من التويتة وزحلة وسيدة المعونة الدائمة في جلالا وسيدة المعونات في المعلقة ورياق، وسيدة الخلاص في جديتا، وسيدة الإنتقال في أبلح وحوش حالا، وسيدة النياح في الفرزل وقاع الريم وقبّ الياس، وسيدة الرقاد في قوسايا وسيدة البشارة في شتورة والفرزل، وسيدة الميلاد والرسل في قبّ الياس، وسيدة التعزية في تعنايل، وسيدة الوردية في عنجر وزحلة، وسيدة النجاة والزلزلة في زحلة.
يُطلقُ على زحلة، دار السلام، وعروس البقاع وعاصمة القضاء اسم «مدينة الكنائس» وهناك من يحلو له تخصيصها بلقب «مدينة العذراء». وهي تضم 19 كنيسة على اسم السيدة العذراء وعشرات المزارات التي تنتشر في حاراتها. ويُروى فوق، في زحلة، أن والدة الإله حمت أهل المدينة في مجازر العام 1841 عندما بدأت أجراس الكنائس تُقرع من تلقاء نفسها لتشدّ من أزر المدافعين المسيحيين عن المدينة. وهي «الحمامة البيضاء» التي ساعدت الزحلاويين في صدّ الهجوم على المدينة. وهي سيدة الزلزلة التي ذرّت زوبعة من الغبار في عيون المهاجمين العام 1860 وأقامت سياجاً حول كنيستها حال دون اقتراب الأعداء منها. وهي السيدة التي منعت الجنود الأتراك من إنزال الجرس عن قبّة كنيسة الزلزلة العام 1914. وهي السيدة العجائبية الشافية من الأمراض المستعصية ولا سيما السرطان. وهي سيدة الكرمة وتُصوّر في كثير من التماثيل والأيقونات والجداريات وهي تُمسك بعنقود عنب.
ننتقلُ الى المتن، حيث يوجد أكثر من مئة دير وكنيسة باسمِ السيدة العذراء وعدد مماثل من المزارات من أصل 450 مقاماَ ومركزاً دينياً على مساحة القضاء. وهناك صلة وثيقة بين المتنيين وأم المسيح التي لازمتهم في الأوقات الصعبة والحروب، في مختلف الحقبات الحرجة، وشملتهم بحنانها وعطفها ومحبتها وحمايتها.
ماذا عن حضور العذراء في الشمال؟
هناك، في الشمال، سكون إيمان في كلّ التفاصيل ومغاور سكنها النساك وكنائس وصوامع ومناسك وأديار منحوتة في الصخر. هناك دير سيدة قنوبين العابق بالتقوى والإيمان ويضمّ جدرانية تتويج العذراء مذيلة بعبارة كتبت بالسريانية تقول: هلمي معي من لبنان، يا عروس لبنان، كي يليق بك التاج. وعلى مسافة قريبة من بشري وحصرون وبقرقاشا، يشمخ بين أشجار الأرز والسرو دير السيدة- الديمان حيث المقرّ الصيفي للبطريركية المارونية. وهناك في مزيارة سيدة أم المراحم وفي إهدن سيدة الحصن وفي كفتون دير السيدة وفي حامات دير سيدة النورية وفي تنورين كنيسة السيدة وفي بشوات، منطقة دير الأحمر، سيدة بشوات العجائبية، وفي ميفوق سيدة إيليج… سيدة الرجاء… والإيمان والشمس والقمر.
زاخرة ٌ هي أرضنا بحضور مريم العذراء. كثيرٌ هو حبُنا لها. عظيمة ٌ هي عجائبها. السلامُ عليك يا مريم الى أبد الآبدين آمين.