يحظى الجيش اللبناني بدعم عسكري أميركي كبير ومتواصل. فواشنطن تقدم له مساعدات متنوعة، تشمل تجهيزات وعتاداً وذخيرة وتقنيات قتالية متطورة وتدريبات… ويتباهى الأميركيون بما يقدمونه لهذا الجيش، معتبرين أن مساعداتهم هي التي تحقق انتصاراته على الإرهاب، وتعزز إمكاناته في تأمين الحدود وضمان الأمن في لبنان.
الإرهاب وحزب الله
يرى الأميركيون أن الجيش اللبناني “مدرب ومجهز على نحو جيد، ولديه قوة قتالية كاملة القدرة”، حسبما ورد – مثلاً – في حديث الدبلوماسي الأميركي لي ليتز ينبرغر، في الأول من شهر مارس/آذار عام 2018. ويثني الأميركيون على الجيش اللبناني بوصفه “شريكاً قيّماً لهم في الحرب ضد تنظيم داعش والمجموعات المتطرفة العنيفة الأخرى”، وفق ما ورد في بيان “مكتب الشؤون السياسية ـ العسكرية” في وزارة الخارجية الأميركية في 21 مايو/أيار 2019.
بيد أن المسؤولين الأميركيين لا يكتفون بهذا الحدّ في تعاملهم مع الجيش اللبناني، فيجاهرون علناً بأن لمساعداتهم العسكرية وظيفة تتعلق، ليس بمسائل الإرهاب والحدود والأمن فحسب، بل بمسألة سلاح حزب الله أيضاً وعلى وجه التخصيص.
إسقاط ذريعة “المقاومة”
بمعنى آخر، تروّج واشنطن لفكرة مفادها أن القدرات الجديدة التي بات يتمتع بها الجيش اللبناني بفضل مساعداتها، من شأنها “تقويض رواية حزب الله الكاذبة، والقائلة إنه (الحزب) هو الوحيد الذي يمكنه، وعليه، توفير الأمن في لبنان”، على ما ذكر ليتز ينبرغر، ويردد الدبلوماسيون الأميركيون باستمرار. من الواضح إذاً أن الدعم والمديح الأميركيين للجيش اللبناني ليسا مجانيين، وثمة مقابل لهما. لكن هذا الجيش لن يكون مطالباً بالطبع بشن حرب على حزب الله. فواشنطن تدرك استحالة هذا السيناريو وخطورته. أما الحكومة اللبنانية فمطالبةٌ بالتأكيد بتبني الموقف الأميركي الذي يرى أن تطور قدرات الجيش تُسقط ذريعة احتفاظ حزب الله بسلاحه، ويجب تالياً حصر مهمة الدفاع عن لبنان بقواته العسكرية الشرعية.
سياسة صدامية
لا ترضى واشنطن بأن يتبنى اللبنانيون موقفها هذا كلامياً أو نظرياً فقط، بل تريد أفعالاً، آملة بتحقيق مطلبها. وهي تمارس ضغوطاً متعددة الأبعاد على لبنان وحزب الله في سبيل هذا الهدف. تبدأ الضغوط بالتشدد الديبلوماسي والمالي تجاه الحكومة والمصارف، وتمر بالتدخل المباشر في الأزمات، على ما قامت به السفارة الأميركية في شأن حادثة قبرشمون ـ البساتين أخيراً، ولن تنتهي ربما بالعقوبات الاقتصادية المباشرة على حزب الله. وتستخدم الدبلوماسية الأميركية وسائل دعائية في “معركتها” هذه. فخطابها يقوم على شيطنة حزب الله وبناء صورة نمطية عنه بوصفه تنظيماً “إرهابياً”، مقابل تسويق صورة إيجابية عن الجيش اللبناني.
هكذا دخلت واشنطن اليوم بسياسة صدامية إلى حلبة الانقسام اللبناني ـ اللبناني. خصومها – حزب الله وحلفائه – الذين يرفضون فكرة نزع سلاح “المقاومة”، يواجهونها متسلحين بحجة أن المساعدات العسكرية الأميركية تساهم فقط في تعزيز قدرات الجيش اللبناني لدحر الإرهاب وضبط الحدود والأمن، لكنها لا تكفي لتمكين الجيش من مواجهة العدو الإسرائيلي والانتصار عليه. ويُدَعّمون حجتهم بالقول إن الولايات المتحدة ترفض أصلاً دعم الجيش إلى درجة تمكينه من تحقيق توازن رعب مع إسرائيل. في المقابل، يلوّح أصدقاء واشنطن اللبنانيون بمنطق احتكار الدولة السيّدة قرارات الحرب والسلم، للإصرار على نزع سلاح الحزب، وخصوصاً منذ انسحاب إسرائيل من الجنوب عام 2000. ويؤكدون أن قدرات الجيش باتت تمكنه من الدفاع عن لبنان، وهو ما ألمح إليه رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، في إطلالته التلفزيونية الأخيرة في برنامج “صار الوقت” على قناة “أم تي في”.
الستاتيكو اللبناني العقيم
بين الحجة والحجة المضادة، يدخل لبنان في دوامة جديدة من التحدي بين أصدقاء واشنطن وخصومها. التناقضات بين الطرفين لا تُحْصى. لكن ثمة قاسم مشترك بينهما: عجز كل منهما عن تقديم طرح ملائم للمنطق الاستقلالي ـ السيادي الفعلي.
الطرف الأول لا يتجرأ على الاعتراف بأن الحالة الراهنة القائمة على ثنائية السلاح في الدولة اللبنانية، هي حالة غير طبيعية، والمطلوب إنهاؤها، بعيداً من حسابات إيران وطموحاتها الإقليمية. أما الطرف الثاني فلا يتجرأ على الاعتراف بأن القوى العسكرية الشرعية غير مؤهلة فعلاً لمواجهة أي تهديد إسرائيلي، والمطلوب هو بناء ترسانة عسكرية دفاعية وهجومية للجيش اللبناني، بعيداً من أي ضوابط تفرضها الولايات المتحدة كإملاءات على لبنان. كأن يمتلك الجيش اللبناني أنظمة صاروخية دفاعية من طراز “باتريوت” أو “أس 400″، ومقاتلات “أف 16” أو “سوخوي” أو “رافال”، لتحقيق التوازن العسكري الحقيقي المطلوب، ليس بوجه إسرائيل فقط، بل بوجه أي دولة تضمر نوايا عدوانية ضد لبنان.
هناك إذاً اعترافان يمثلان مفتاح حل هذه المشكلة التاريخية اللبنانية العائدة جذورها إلى ما قبل حرب حزيران 1976 وبعدها. والاعترافان هذان هما ما يمهد لتجاوز المشكلة المزمنة. على أمل ألا يبقى سرّ هذا الاعتراف وذاك محفوظاً في واشنطن وطهران.
وقد تنطوي زيارة رئيس الحكومة اللبنانبة الأخيرة إلى واشنطن، على ضغوط أميركية تهدف إلى تجاوز هذا “الستاتيكو” اللبناني العقيم والمزمن.