كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
أمّا وأنّ «لقاء المصارحة والمصالحة» قد طوى صفحة موقعة قبرشمون، فإنّ لبنان بكل تحدياته السياسية والاقتصادية، يعود بضعة مربعات إلى خَلف التوترات التي دفعت بكل الملفات إلى حافة الهاوية، خصوصاً في ظل الحديث عن سيناريوهات الانهيار الاقتصادي، وما قد تعكسه في ذلك التصنيفات الإئتمانية.
تبدو المصالحة الأخيرة نسخة مصغّرة من صيغة «لا غالب ولا مغلوب». الكل عاد إلى قواعده: رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أظهر أمام جمهوره أنه رئيس «العهد القوي» القادر على تحقيق المصالحات من دون تنازل عن المواقف.
وزير الخارجية جبران باسيل عاد خطوة إلى الوراء بعد خطوتين إلى الأمام، بانتظار أن يستكمل معركته الرئاسية المقبلة.
رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط فرض نفسه مجدداً، وبشكل قوي على المشهد السياسي، بعد شعور مرير بالعزلة.
رئيس مجلس النواب نبيه بري أثبت أنه ضمانة للتوازنات القائمة بالنظر إلى دوره المحوري في تحقيق لقاء «المصارحة والمصالحة».
ربما كان سعد الحريري وحده من ظلّ، بشكل أو بآخر، على الهامش. فطوال الأسابيع الصعبة من الأزمة السياسية التي أعقبت حادثة قبرشمون، بَدا رئيس الحكومة كأنه «صوت صارخ» في برّية الحياة السياسية في لبنان، مكتفياً بالتحذير من التداعيات الكارثية لِما يجري، ومحاولاً تدوير الزوايا، مع إدراك كبير بمحدودية قدراته على القيام بدور كذاك الذي قام به الرئيس نبيه بري.
مع ذلك، فإنّ الحريري سجّل الكثير من النقاط الإيجابية لصالحه في الأزمة الأخيرة، بعدما قدّم نفسه باعتباره الصوت العاقل في مسرح الجنون اللبناني العبثي.
إستفاد الحريري، في هذا السياق، من أخطاء الآخرين، لينتقل بعد «المصارحة والمصالحة» من مرحلة التحرك على الهامش إلى اقتناص الفرصة لإعادة تثبيت حضوره، كأحد المحاور الاساسية في المشهد السياسي اللبناني.
ينطلق الحريري من مسلّمة أساسية، وهي أن المجتمع الدولي يرى فيه الشخصية الوحيدة القادرة على إبقاء «الستاتيكو» السياسي القائم في لبنان، وهي الصيغة التي يبدو أنّ اللاعبين الخارجيين قد استقرّوا عليها، في ظل التسخين الذي يشهده الشرق الأوسط بين الولايات المتحدة وإيران، والذي ربما يجعل التوازنات الحالية أفضل الحلول الممكنة، بدلاً من انفلات الأمور إلى سيناريوهات أكثر تطرّفاً، ولاسيما في ميدان المواجهة مع إسرائيل.
وبالنسبة إلى الأميركيين تحديداً، ووفق المنهج الذي يسيرعليه دونالد ترامب في السياسة الخارجية، فإنّ العقوبات المالية هي الخيار الأفضل، والأقل كلفة، في مواجهة «الأعداء»، بدلاً من الخيارات العسكرية التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تلجأ إليها، في حال لم تكن متأكدة من تحقيق أهداف كبرى، كإسقاط النظام في إيران، أو سحق «حزب الله»، وهو ما يدرك الأميركيون استحالته الموضوعية، سواء تَعلّق الأمر بالجمهورية الإسلامية، حيث ثمة يقين أميركي من أن أية ضربة عسكرية ستحدث نتيجة معاكسة لجهة تقوية الجناح المتشدد في النظام الإيراني، أو بـ«حزب الله»، حيث لا تزال ذكريات حرب تموز عام 2006 ماثلة أمام الجميع.
من هذا المنطلق، يأتي تلاقي المصالح بين الإدارة الأميركية وسعد الحريري، فبالنسبة إلى الأميركيين إنّ رئيس الحكومة هو وحده الضامن لعدم «سقوط لبنان في قبضة «حزب الله»، بحسب الأدبيات والسرديات الأميركية المعروفة… وبالنسبة إلى الحريري فإنّ تلاقي المصالح المذكور يجعل من الممكن استعادة المبادرة التي فقدها منذ «حادثة السعودية» في خريف العام 2017، وما رافق وتَبِعَ ذلك من بروز لدور بعض «الصقور» في الشارع السني، و»تيار المستقبل تحديداً».
بهذا المعنى، يمكن أن تترجم زيارة الحريري الأخيرة للولايات المتحدة بمعادلة جديدة، عنوانها العريض «الحريري القوي»، بما يوازي اختلال التوازن السياسي الذي يحمله شعار «العهد القوي»، وهو ما يتطلّب، وفق تلاقي المصالح الأميركية – الحريرية ذاتها، إعادة تعويم رئيس الحكومة في الحياة السياسية اللبنانية، وتكريس دوره كضامن للاستقرار السياسي… والأهم من ذلك الاستقرار الاقتصادي.
لن تتأخر تلك المعادلة في الظهور ما ان يعود الحريري إلى لبنان، فالإطار العام للتموضع الحريري المقبل اتّضَح مع البيان المشترك الذي أعقب لقاءه وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو، وربما قبل ذلك، فالاستقبال الذي حظي به الحريري، ومستوى المسؤولين الذين التقاهم، وفي مقدمهم بومبيو ورئيس البنك الدولي ديفيد مالباس، والمواقف التي أعلنت إثر هذه اللقاءات تعكس رغبة واضحة لدى الإدارة الأميركية، وبطبيعة الحال المجتمع الدولي، لدعم موقف رئيس الحكومة اللبنانية.
ثمة نقطة قد تبدو هامشية، ولكنها بالغة الرمزية حين يتعلق الأمر بالسلوك السياسي الأميركي: ما حظي به الحريري من حفاوة الاستقبال في الولايات المتحدة، كان قد سبقه تجاهل كبير، وربما فَج، لزيارة وزير الخارجية جبران باسيل إلى الولايات المتحدة قبل أسابيع قليلة، والتي لم تشهد أيّ لقاء مع أيّ مسؤول أميركي!
وبصرف النظر عن التأويلات التي يمكن ان يحملها التناقض الأميركي في التعامل مع الحريري وباسيل، إلا أنّ الثابت هو أن الحريري يعود إلى لبنان بدعم أميركي واضح، يفتح له الباب واسعاً للدخول في مرحلة جديدة ستنعكس بشكل مباشر على لبنان، خصوصاً في ما يتصل بإعادة رسم قواعد الاشتباك الداخلية.
لكنّ قواعد الاشتباك الجديدة تستهدف، على ما يبدو، تثبيت توازنات سياسية ما، بدلاً من التصادم، وهو ما عكسته تصريحات الحريري، التي جاءت على مسمع الأميركيين، ولاسيما في موضوع العقوبات المالية، التي قاربها الحريري بمنطق مثير للانتباه، حين قال إنها «برأيي لا تفيد بشيء، لكنهم (الأميركيون) بالتأكيد سيتشددون في كل ما يتعلق بإيران ومن يساعدها ويتواصل معها، وقد شرحنا لهم وجهة نظرنا بضرورة تجنيب لبنان تبعات هذه العقوبات، وأعتقد أنّ رسالتنا وصلت بشكل جيد».
بل ان الحريري ذهب أبعد من ذلك في ملف العقوبات، حين تطرّق إلى الإجراءت التي يجري التلويح بها ضد حلفاء «حزب الله» – وهنا المقصود بطبيعة الحال حركة «أمل» و»التيار الوطني الحر»، حين تعمّد توجيه رسالة لا شك أنّ رموزها قد فكّت سريعاً في لبنان: «هذا مجرّد كلام متداول أكثر مما هو حقيقة، ولا أرى أننا يمكن أن نصل إلى ذلك».
بذلك، حاول الحريري طمأنة «شركاء» الحكم أنّ الدعم الذي تلقّاه في واشنطن، والذي سرعان ما سيستثمر في المشهد السياسي اللبناني، لا يمكن أن يؤدي في أيّ حال من الأحوال إلى تصادم داخلي، بمعنى أنّ رئيس الحكومة لا يسعى إلى الاستقواء بالأميركيين لتصفية حسابات سياسية داخلية… بل ان جلّ ما يطلبه هو إعادة التوازن عبر استعادة الدور المفقود منذ فترة.
وللتأكيد على ذلك، يبدو أنّ تلاقي المصالح الأميركية – الحريرية سيفرض تغييراً ما في السياسة الأميركية، لجهة عزل ملف العقوبات عن الدعم الاميركي للاستقرار الاقتصادي من جهة، والمساعدات العسكرية للجيش اللبناني من جهة ثانية، والمضي قدماً في عملية ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان واسرائيل من جهة ثالثة.