كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
خصّص الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله جزءاً مهماً من خطابه الأخير للكلام على «العمران والأمن والأمان والطمأنينة والثقة وراحة البال وهَناءة العيش التي تسود في الجنوب»، كما خصّص مساحة واسعة أيضاً للتشديد على أنّ محوره يدفع باتجاه منع الحرب، وانه في موقع رد الفعل لا الفعل.
أراد السيد نصرالله، بكلامه على الاستقرار السائد في الجنوب، ضَرب عصفورين بحجر واحد: طمأنة الجنوبيين الى أنه حريص على الهدوء في المنطقة وتجنيبها الخراب بعد العمران الهائل الذي شهدته في السنوات الأخيرة، حيث بَدا لافتاً تركيزه على الجانب العمراني والاستقراري، ولولا شعوره أو معلوماته بوجود مخاوف لدى الناس من حرب يُقدم عليها «حزب الله» لَما تطرّق الى هذا الموضوع من خارج سياق الأحداث، وذلك من أجل طمأنتهم والتأكيد لهم بأنه حريص مثلهم على الأمن والأمان في الجنوب.
والعصفور الثاني يكمن في توجيهه رسالة مزدوجة إلى إسرائيل: الرسالة الأولى انه لا يريد الحرب حفاظاً على ما تحقق جنوباً، وهذه الرسالة برزت من خلال حرصه على الاستقرار وقوله انه في موقع الدفاع عن النفس لا الهجوم، والرسالة الثانية مكررة ونسخة طبق الأصل عن خطاباته السابقة بأنه أكثر من مُستعد وجاهز لمواجهة اي هجمة إسرائيلية.
وقد يقول قائل إنّ ما تقدّم غير صحيح، وجلّ ما قصده السيّد انّ الاستقرار في الجنوب مردّه الى توازن الرعب الذي أحدثه حزبه في مواجهة إسرائيل. لكنّ هذا الكلام غير دقيق، فهو أراد الإيحاء بتوازن الرعب، ولكنّ هدفه الأساس كان توجيه رسالة ضمنية الى الجنوبيين بأنه لن يكرر حرب ٢٠٠٦، وإلى الإسرائيليين بأنه جاهز للحرب في حال بادرَت هي إليها، وإلى الأميركيين بعَرضه عليهم المقايضة الآتية: تتركون الستاتيكو القائم في المنطقة على حاله، نلتزم حدود هذا الستاتيكو.
فأن يقول نصرالله انّ محوره لا يريد الحرب، وأن يحمِّل المحور الآخر مسؤولية الحرب، فهذا يعني انّ واشنطن نجحت في وضع هذا المحور في موقع الدفاع، لأنّ علّة وجود محور الممانعة الحرب والتوسّع، والتزامه حدود الستاتيكو الحالي هو بسبب عدم قدرته على مواصلة سياسته التوسعية، فيما كل سعيه يتركز حالياً على تجاوز العاصفة «الترامبية» من أجل ان يعود الى قواعده القديمة سالماً، اي قواعد الحرب والتوسع.
حاول نصرالله ان يبرز في موقع الرافض للحروب، وقال حرفياً: «نحن جزء من المحور الذي يمنع الحرب، ولسنا جزءاً من المحور الذي يدفع باتجاه الحرب في المنطقة. ومحورنا يستطيع من خلال قوته ووجوده وفعاليته أن يمنع الحرب، ونحن ننتمي إليه، ونحن نريد أن نمنع الحروب في المنطقة، ونريد وقف الحرب في اليمن وسوريا والمحافظة على الاستقرار في العراق ولبنان».
فالأدبيات المستخدمة من قبل الأمين العام لـ»حزب الله» جديدة، أو بالأحرى انّ المنطق والفلسفة المستخدمَين جديدان، إذ كيف يمكن لمحور علّة وجوده الحرب ان يمنع الحرب؟ وهذا ان دلّ على شيء، فهو يدل على 3 أمور أساسية:
الأمر الأول، أنّ محور الممانعة سلّم بوجود إسرائيل، وسلّم بالنفوذ الأميركي في المنطقة، خصوصاً ان كل منطقه المُعلن كان قائماً الى ما قبل خطاب نصرالله الأخير على إزالة إسرائيل من الوجود. فهل تراجع عن هذا الهدف؟ وهل يمكن إزالة إسرائيل من موقع الدفاع لا الهجوم؟ وهل إزالتها تكون بمنع الحرب، وفق قوله، أم بتوفير الظروف العسكرية لإزالتها عن خريطة المنطقة؟
ويعلم القاصي كما الداني انّ محور الممانعة لا يستطيع إزالة إسرائيل من الوجود، وكل هذا الكلام يندرج في سياق التعبئة المستندة إلى الأيديولوجيا والمزايدة على العالمين العربي والسني، ولكن ليس تبسيطاً ان يسلِّم بقواعد اللعبة، ويعلن انتقاله من الهجوم الى الدفاع.
الأمر الثاني، انّ محور الممانعة يعرض صفقة على الأميركيين قوامها التراجع عن العقوبات على إيران، وعدم المساس بالدور الإيراني مقابل ان يتحوّل الهدف المُضمَر لمحور الممانعة القبول والتسليم بترسيم مواقع النفوذ الإقليمية بدءاً من إسرائيل وصولاً إلى السعودية؟
فمن الواضح انّ إيران محشورة، وتدرك انّ الولايات المتحدة لن تتراجع عن العقوبات قبل ان تتراجع طهران عن السلاح النووي والبالستي ودورها في المنطقة، وفي هذه اللحظة بالذات قدّم نصرالله عرضه باسم المحور لواشنطن: اتركونا بحالنا، نترككم بحالكم.
وكان سبقَ خطاب نصرالله الأخير الكَشف عن الرسالة التضامنية التي وجّهها لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وذلك من أجل التأكيد على محورية دور نصرالله داخل المحور الممانع وانه في الموقع الذي يَشدّ أزر فلان، ويرفع معنويات علتان. وبالتالي، إنّ توجيه الرسالة كان مقصوداً من أجل إعطاء صدقية للعرض المقدّم.
الأمر الثالث، انّ محور الممانعة يقول للمجتمعين الدولي والعربي انّ إنهاء الحرب لا يعني الالتحاق بالشرعية الدولية، بل يعني إقرار هذه الشرعية بدور المحور الممانع العسكري ونفوذه السياسي، وهذه المحاولة تعني انّ هذا المحور لن يفرِّط بسهولة بالتراكم العسكري الذي حقّقه، وبمقولة انه يتحكّم بـ3 عواصم عربية وربما أكثر.
وفي موازاة الرسائل التي وجهها نصرالله الى واشنطن، وجّه رسالة مزدوجة الى اللبنانيين: الرسالة الأولى انّ الاستراتيجية الدفاعية المطبّقة هي الاستراتيجية التي تحفظ السلام اللبناني، وانه لا حاجة الى البحث في استراتيجية أخرى، وانّ الحزب لا يعتمد استراتيجية هجومية، بل هدفه الحفاظ على توازن الرعب مع الإسرائيليين بغية توفير الاستقرار للبنانيين، ما يعني انّ لسلاحه وظيفة استراتيجية ولن يتراجع عنها.
الرسالة الثانية، والمتّصلة بالأولى، لناحية انّ فائض القوة الذي يملكه بسبب سلاحه الاستراتيجي لن يصرفه في الحياة السياسية الداخلية، وانه لو أراد صَرفه فهو قادر على ذلك، ما يعني انه يُمَنِّن اللبنانيين بعدم توظيف قوته العسكرية في السياسة المحلية. وهذا الكلام ليس في محله، لأنه ليس باستطاعته حكم لبنان بسلاحه، وتجربة «القمصان السود» كادت ان تجرّ لبنان إلى حرب أهلية، وهذا البلد قائم على توازنات طائفية – سياسية لا يمكن لأحد تجاوزها لا بسلاح استراتيجي ولا نووي.
وامّا لناحية الوظيفة الجديدة التي حدّدها لحزبه الذي يرفض ان «يلغي أحد أحداً»، فهذه الوظيفة تحوّل «حزب الله» الحزب الحاكم في لبنان، وتلغي النظام الديموقراطي اللبناني الذي وحده يحدد الأحجام والأوزان ويفرزها في صناديق الاقتراع.
أمّا السؤال: ماذا لو لم تَستجِب واشنطن للعرض الإيراني، فهل ينتقل المحور الممانع الى المواجهة، وماذا عن مصير لبنان في هذه الحالة؟