كتب أكرم ياغي في “الاخبار”:
أجرى المجلس الشرعي الاسلامي الأعلى (بالقرار رقم 46 تاريخ 1\10\2011) تعديلات مهمة على نظام أحكام الأسرة، شملت المهر والنفقة والحضانة، وترك الباب مفتوحاً أمام قضاة المحاكم الشرعية السنية للاجتهاد في موضوع الطلاق بالثلاث لناحية اعتباره طلقة واحدة أم ثلاثاً، وتطليق الزوجة بطلب منها في ما لو تعسف الرجل في استعمال هذا الحق. والسؤال الذي يطرح نفسه لدى الطائفة الشيعية: هل أن باب الاجتهاد الوحيد المفتوح لتطبيق فقه الأحوال الشخصية قد أغلق؟ ولماذا؟
إذا كان الطفل ربيع العائلة، بما يحمله من صفات البراءة والطهارة والوداعة، فإن الحياة الهانئة له تتأتى من خلال الإهتمام بحقوقه البدنية وبصحته وغذائه ونموه وتربيته وتعليمه. وإذا كان «الميثاق الغليظ» هو عماد تنظيم الأسرة (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً – سورة النساء، الآية 21)، وحاجة الإنسان إلى استمرار وجوده مرتبطة بالأبناء والأحفاد، فإنه ينبغي ألا تكون هناك زوجية قائمة على أساس الظلم والقهر والإجبار. فالزواج ميثاق تعايش لا يمكن أن يتم بغير المودة والسكينة وحسن المعاشرة. أما إذا تباينت طبائع الزوجين واختلفت أخلاقهما، فإن الترابط والإنسجام يصبح مفقوداً، وعليه لا مصلحة للمجتمع في الإبقاء على مثل هذه الزوجية المضطربة. ولهذا شُرّع الطلاق ليحسم ذاك الداء، فهو الدواء والعلاج والوقاية، وليس عقوبة تنزل بطرفي العقد.
إلا أن فتح هذا الباب لإنهاء العلاقة الزوجية تنجم عنه مشكلة شديدة الآثار تتعلق بالحضانة. إذ يحرم الطفل من رعاية الأب والأم وتوجيههما معاً، وبالتالي من النمو العادي للأطفال، ويتحول إلى صندوق بريد متبادل بين الطليقين، أو منصة لإيصال الرسائل المتبادلة بينهما، وأحيانا إلى متراس ووسيلة ابتزاز من كلا الطرفين للحصول على عرض أفضل للطلاق.
والأخطر هو إهمال الطفل من الحاضن لزيادة أوجاع الطرف الأضعف، أي الأم، من دون حسيب أو رقيب، ولأن القضاء قد قام بما عليه وترك الأمور على غاربها، مما قد يدفع الطفل إلى كره أحد الوالدين وربما الإثنين معاً، وقد يعاني من عقد نفسية حادة تحمله على الإنحراف والتشرّد بالمعنى النفسي، وبالتالي اتخاذه موقف المنتقم من المجتمع الذي يعيش فيه.
وإذا كانت الحضانة، عموماً، تعرف بأنها الالتزام بتربية الطفل ورعايته في سن معينة ممن عليه الواجب في ذلك، فإنها تخضع للمبدأ الإسلامي بمراعاة المصالح الاجتماعية. وهذا المبدأ شديد الأهمية في الفكر التشريعي الإسلامي. فقد وضع الفقهاء قواعد لحماية المصلحة، وقرروا تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة درءاً للمفاسد ورعاية لحاجات الناس, وبنوا على أساس هذه القاعدة أحكاماً كثيرة احتراماً للمصالح الاجتماعية التي تعتبر الغاية الأولى لتشريع أحكام الوقوعات والمعاملات. وضمن هذه المصالح الاجتماعية، تدخل حماية الطفل. وبالتالي لا مصلحة للمجتمع في إقرار حضانة لا تتوافر فيها هذه الحماية.
والإشكالية مطروحة أمام المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى باعتباره المتولي لشؤون الطائفة والمدافع عن حقوقها والحافظ لمصالحها والعامل على رفع مستواها (المادة 2 من قانون رقم 72\67 المتعلق بتنظيم شؤون الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان).
أما في ما يتعلق بموضوعات الأحوال الشخصية، واستناداً الى المادة 30 من القانون نفسه، فإن أمر البت النهائي بأي أمر متصل بها هو بيد الهيئة الشرعية. إذ لا يجوز مباشرة أي تنفيذ خلافاً لما تقرره الهيئة الشرعية المؤلفة من 12 عضواً من علماء الدين اللبنانيين المنتخبين من علماء الدين اللبنانيين (المادة 9 من القانون عينه)، ويعمل على تنفيذ ما يتخذ من قرارات رئيس المجلس سنداً للمادة 2 من القانون المذكور.
والسؤال المطروح: لماذا التردد وعدم حسم الأمور المتعلقة بالأسرة؟ وهل المسؤولية ملقاة على كاهل المجلس أم أن الأمر يحتاج إلى تدخل القيادة السياسية العليا للطائفة؟
الكتابة في موضوع الحضانة لا تنطلق من مماشاة العصر، ولا من أجل اللحاق بالطوائف الأخرى (خصوصاً الإسلامية التي تقدمت خطوات جديرة بالثناء)، ولا مسايرة للجان حقوق المرأة والمجتمع المدني، بل لمصلحة الطفل أولاً وأخيراً. وهذا الموضوع يبقى من أدق المسائل القانونية والشرعية لما في دراستها من تساؤلات معقدة ونظريات متناقضة ووجهات نظر متعددة.
والأسباب التي تبرر رفع سن الحضانة عديدة نذكر منها:
1- إن هذه المدة تقع في منطقة الفراغ التشريعي الذي يُسد عن طريق الاجتهاد، باعتبار أن غالبية أحكام الحضانة اجتهادية ظنّية. إذ لا يوجد نص شرعي في قرآن أو سنة يحدّد المدة، ما عدا حديث ورد عن الرسول (ص)، وفيه خوّل المرأة المطلّقة حق حضانة ولدها، بقوله: «أنت أحق به ما لم تنكحي». ولو فارقها الزوج الثاني بطلاق أو فسخ أو موت، فقد رجّح أكثر الفقهاء عودة الحضانة إلى الأم. فالمانع من الحضانة حال زواجها هو انشغالها بحق الزوج الثاني، فإذا زال المانع رجع حقها إليها، باعتبار أن لفظة «ما» في الحديث مصدرية ظرفية، والمعنى أنها أحق بولدها في زمن عدم زواجها، وهو مخصص زمني والمرجع بعده إلى العموم الزمني المستفاد من قوله «ما لم تنكحي» (أي تتزوجي) الشامل لحقها بالحضانة إلا في تلك الفترة.
والشيعة هم أهل الدليل حيث يميلون معه كيفما يميل، وهم أهل الاجتهاد إذ أن أبوابه لم تقفل كما في المذاهب الاسلامية الأخرى (سابقاً). وبالتالي، فإن باب الاجتهاد مفتوح انطلاقاً من مبدأ مراعاة المصالح العامة والخاصة. ومدة الحضانة من المصالح المتغيرة زماناً ومكاناً، انطلاقاً من مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان، كما أن مفهوم الحضانة مفهوم نسبي يتطور بحسب الزمان والمكان ما يصح أن يطلق عليه مفهوم المصلحة الزمنية.
2- رفع الآثار السلبية عن الطفل وعدم تحميله وزر خلافات الأهل، وعدم تحويل الحكم الصادر عن المحكمة إلى قضية مقضية ترفع الملامة عن المحكمة وترميها على كاهل الطفل من دون الأخذ في الاعتبار النتائج السلبية لمثل هذه الأحكام. وهذا ما يتطلب تكليف مرشد ومرشدة اجتماعية متخصصة لمتابعة أحوال الطفل ورفع تقارير دورية للمحكمة ليبنى على الشيء مقتضاه.
3- الدولة في إيران التي تطبق المذهب الجعفري على أتباع هذا المذهب (وهم أكثرية السكان) حدّدت مدة الحضانة في قوانين أحوالها الشخصية بسنوات سبع للذكر والأنثى (قانون حماية الأسرة)، ويبقى القرار النهائي للمحاكم في تقدير مصلحة الطفل في البقاء مع أمه أو عيشه مع أبيه. كما أن قوانين الأحوال الشخصية في العراق المطبقة على الشيعة العراقيين حددت مدة الحضانة للأم بعشر سنوات للطفل ذكراً كان أم أنثى، وأعطت المحكمة الحق بتمديد حق الحضانة حتى سن الخامسة عشرة ثم يعطى المحضون حق الإختيار. وعليه، لماذا الإصرار في المحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان على اتباع اجتهاد قديم (القرن الثامن للهجري) والترجيح بين روايتين ثم التوفيق بينهما على سن حضانة الذكر سنتين وسن حضانة الأنثى سبع سنوات؟
4- أصبح من الضروري تحديد مدة الحضانة تبعا لاحتياجات الطفل في كل مرحلة من مراحل حياته، والأخذ في الاعتبار حاجاته على أساس نموه الجسدي ووضعه النفسي والتعليمي والفكري نسبة لنموه وليس لسنيّ عمره.
5- لا بد من تعليل حكم الحضانة في المحاكم الشرعية الجعفرية بالاستناد إلى تقارير الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين وفي تقدير مصلحة الطفل، والتزام القاضي الشرعي بما ورد في هذه التقارير، آخذاً في الاعتبار علاقة الطفل بأشقائه ومصلحته القاضية بعدم التشتت والتشرذم. وعليه لا بد من رفع سن الحضانة إلى عشر سنوات للطفل، ذكراً كان أم أنثى، على أن يصار عند انتهاء هذه المدة الى تقدير لمصلحة الطفل المحضون بابقاء حضانته لأمه أو نقلها إلى الأب.