كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
الى ان يعود الرئيس سعد الحريري الى بيروت، يستمر التباين في تقييم محادثاته في واشنطن والمواقف التي اطلقها من هناك. بعضها حظي بتصفيق حلفائه، والبعض الآخر طرح علامات استفهام لدى خصومه. الا ان بعثه الروح في القرار 1701 كان الابرز.
ما لم يُثر حفيظة حلفاء رئيس الحكومة سعد الحريري وخصومه، هو المعلوم في محادثات واشنطن الذي لا يحتاج الى تأويل كالعقوبات الاميركية على حزب الله وادانة دوره في لبنان والمنطقة، واستمرار دعم الجيش والاسلاك العسكرية ومدّها بالمساعدات، وتيقن الاميركيين من ان النظام المصرفي اللبناني يحترم قوانينهم وقيودهم ما دام جزءاً لا يتجزأ من النظام المالي الدولي ومشاركته الفاعلة في مكافحة تمويل الارهاب. ما كان محتوماً الاستماع اليه في واشنطن اصرار اميركي على الاستقرار الداخلي، ومعالجة جدية للازمتين الاقتصادية والمالية، ومراعاة التوازن الداخلي بين القوى المحلية بما لا يُرجح كفة حزب الله. ناهيك باحترام القرارات الدولية. عند الاميركيين تبدأ هذه بالقرار 1559 ثم باقي السلسلة، وعند اللبنانيين باتت القرارات، مذ تخطت البلاد مرحلة عامي 2005 – 2008، تقتصر على القرار 1701 في الجنوب وإن هو يحمل في متنه تأكيداً صريحاً على القرار 1559 وامتداداً له.
مع ان زيارة الحريري لواشنطن خاصة، مرتبطة بالتحاق ابنته بالجامعة هناك، فكانت مناسبة لطلب مواعيد مع مسؤولين رسميين، الا ان مضمونها السياسي لاحقاً اضحى ذا جدوى. بل تكمن الاهمية في ما ادلى به اكثر منه ما سمعه من المسؤولين الاميركيين. اكثر من اي وقت مضى، وبعيداً من العبارة التقليدية القائلة باحترام القرار 1701، طرح الحريري للمرة الاولى منذ بدأ تطبيق القرار في مثل هذا الشهر لـ13 سنة خلت، سبل الانتقال من وقف الاعمال العدائية الى وقف النار الوارد في اكثر من فقرة في القرار. مع انه لم يقترح آلية لاجراء هذا الانتقال، المسند الى الامم المتحدة دور اساسي فيه، الا ان نفض الغبار عن هذا الشق في القرار يأتي في توقيت مثير للانتباه، لكنه يشير كذلك الى بضع ملاحظات:
1- منذ توقف الحرب الاسرائيلية على لبنان وحزب الله عام 2006، يقتصر تطبيق القرار 1701 على هذا الجانب من دون ان يطلب لبنان واسرائيل، حتى الآن على الاقل، من طريق الامم المتحدة، الانتقال الى المرحلة التالية لوقف الاعمال العدائية، رغم انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني وتوسّع مهمات اليونفيل المعززة والتفويض المعطى اليها، وانتفاء – وإن في العلن على الاقل – المظاهر المسلحة لحزب الله. على مرّ الحكومات المتعاقبة منذ عام 2006، لم تتضمن بياناتها الوزارية سوى الاصرار على احترام القرار 1701، الذي لم يعنِ مذذاك سوى وقف الاعتداءات والهجمات. على مرّ السنوات التالية، من دون اي اجراءات حسية تعكس جديتها، تبادلت اسرائيل وحزب الله التهديدات بتقويض الاستقرار والعودة الى مسرح الحرب اذا اعتدى احدهما على الآخر. قالت الدولة العبرية انها لن تمانع في اعادة لبنان الى العصر الحجري، ورد الحزب بأن مقاتليه سيواجهون الاسرائيليين في المرة المقبلة داخل الاراضي المحتلة وسيصوّب صواريخه الى مرافئهم ومنشآتهم. لم تطلب اسرائيل تجاوز المرحلة الاولى، ولا ابدى الحزب حماسة لذلك، كأنهما مصران على ابقاء النزاع قائماً في انتظار تحولات اقليمية مصيرية.
2- بانقضاء 13 سنة على سريان القرار 1701، يبدو جنوب نهر الليطاني في الواقع في ظل وقف فعلي للنار من غير اي تفاوض مباشر او غير مباشر مع الدولة العبرية. لم يُخرق الخط الازرق الذي يقع في صلب القرار 1701، ولم تنكفئ مهمة اليونفيل او يتراجع الجيش اللبناني عن دوره. اضف ان مزارع شبعا، المستثناة من نطاق القرار 1701، تعيش الاستقرار نفسه لجنوب نهر الليطاني ما خلا لافتات التهويل والتهديد. ومع ان الانتهاكات الاسرائيلية للقرار لم تتوقف من خلال عراضات استكشاف جوي وبحري، ونادراً برياً يواجهه الجيش كما في العديسة في 3 آب 2010، الا ان ضبط الامن عند جانبي الحدود بما يتجاوز وقف الاعمال العدائية ووقف النار حتى، لا يزال الاكثر احتراماً بين الفريقين العدوين، اسرائيل من جهة وحزب الله والجيش اللبناني من جهة أخرى.
3- من غير الواضح التفسير الدقيق لما طرحه الحريري في واشنطن، سواء اتى من بنات افكاره او بإيحاء اميركي، ان يطالب اليوم بالعودة الى آلية القرار 1701 الذي لا يكتفي بالكلام عن وقف الاعمال العدائية ووقف النار، بل يتحدث عن «حل طويل الامد». أقرن هذا المطلب بحديثه عن ضرورة عودة التفاوض مع اسرائيل على ترسيم الحدود البحرية، ووضع موعداً في ايلول، للمفارقة هو التاريخ نفسه الذي كشف عنه رئيس البرلمان نبيه بري عندما تحدث عن استقباله الوسيط الاميركي الجديد دايفيد شنكر في 12 ايلول لمعاودة الخوض في هذا الملف. في الاشهر المنصرمة من مراحل التفاوض التي تولاها السفير دافيد ساترفيلد مع بري، ومن قبلها مواقف عدة للامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، توخى المفاوض اللبناني الظهور بمظهر القوي الذي يُخضع الحدود البحرية للشروط نفسها للحدود البرية في معادلة «توازن الردع»، في كل مرة تقرر اسرائيل الاعتداء على الحقوق اللبنانية. وهي وجهة النظر التي يلتقي عليها بري ونصرالله ورئيس الجمهورية ميشال عون كإحدى قواعد التفاوض الذي لا يزال يتعثر. مع ذلك اوجد الحريري في واشنطن ربطاً مباشراً بين ملفين مختلفين، البند المؤجل في القرار 1701 والترسيم البحري المنوط رسمياً بمفاوض وحيد هو رئيس مجلس النواب، الا انهما يخضعان لقاعدة سياسية واحدة ترتبط بالسيادة اللبنانية.
4- قد لا يكون حاسماً تماماً الاعتقاد بأن الموقف الذي ادلى به الحريري امام المراسلين العرب في واشنطن، نمّ عن التزام قدمه الى الاميركيين بالذهاب الى تفاوض على المرحلة التالية في القرار 1701، قبل العودة الى مرجعيتين معنيتين مباشرة بهذا الموقف هما حزب الله ومجلس الوزراء. الاول بصفته الممسك الميداني المباشر المنظور وغير النظور للاستقرار في الجنوب وعند الخط الازرق خصوصاً، والثاني بصفته السلطة الدستورية الممثلة للافرقاء جميعاً بمن فيهم الغالبية الحكومية، ومن ورائها الغالبية النيابية، الدائرة في فلك حزب الله صاحب الكلمة المسموعة في اتخاذ قرار الانتقال الى حال وقف النار في الوقت الحاضر.
ما لم يطرح الحريري موقفه هذا في مجلس الوزراء، انسجاماً مع ما ادلى امام الاميركيين، سيصحّ القول عن الرجل ان ما يحدّث الخورية به هو غير ما يحدّث به الرعية!