كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
تكثر التحليلات عما حملته زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى واشنطن من نتائج في ضوء اللقاءات التي عقدها مع المسؤولين الأميركيين، والذي لم يسلم من الاستهداف ورسائل التهويل المباشرة والمبطنة حتى قبل عودته إلى بيروت.
لا شك أن زيارة الحريري التي تأتي في ظل الظروف الإقليمية المعقدة واستعار المواجهة الأميركية – الإيرانية في المنطقة والتي تطال تأثيراتها الساحة اللبنانية تكتسب أهمية كبيرة، ولا سيما أن ثمة تحولاً ملحوظاً في كيفية تعاطي الإدارة الأميركية مع لبنان، منذ أن بدأت واشنطن تشدد الخناق على إيران عبر تطبيق المرحلة الأقسى من العقوبات عليها. وما زاد من حذر بعض القوى اللبنانية اعتبار أن موقف السفارة الأميركية في بيروت على خلفية حادثة قبرشمون شكل إيذاناً على بدء مرحلة جديدة في المقاربة الأميركية للوضع اللبناني.
ليس هناك وهم لدى إدارة دونالد ترامب بأن التسوية الرئاسية التي آلت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وقانون الانتخابات النيابية الذي أعطى الأكثرية البرلمانية إلى القوى التي تدور في فلك المشروع الإيراني أدى إلى اختلال موازين القوى الحاصل راهناً في لبنان. وتدرك هذه الإدارة حجم هيمنة «حزب الله» على مفاصل الدولة، وحجم اختراقه لها، وسيطرته الفعلية على مناطق نفوذها وتغلغله في البيئات الحاضنة له، وهي تعلم علم اليقين أن «حزب الله» يقوّض عبر سلاحه وفائض هذا السلاح هيبة الدولة ومؤسساتها، وأنه لم يلتزم القرار 1701 بإخلاء ترسانته العسكرية جنوب الليطاني، لا بل إنه ماض في تعزيز وجوده في هذه المنطقة، فضلاً عن مناطق أخرى.
والأهم أن الإدارة الأميركية تدرك بأن قدرة القوى السيادية التي شكلها فريق الرابع عشر من آذار عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد تراجعت إلى حد التلاشي نتيجة عوامل عدة، ومنها ما يعود إلى سياسة باراك أوباما الذي أراد تحقيق انجاز تاريخي بالتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، حتى لو اقتضى الأمر التغاضي عن تمدد إيران وأذرعها في لبنان والمنطقة وزعزعة استقرارها.
المتابعون للسياسة الأميركية الراهنة يؤكدون أن الحريري لم يسمع شيئاً جديداً خلال لقاءاته الأخيرة. فموقف إدارة ترامب سبق أن نقله بشكل جلي وواضح وزير الخارجية مايك بومبيو خلال زيارته بيروت وقبله وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية ديفيد هيل، ومن مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد، ومن السفيرة الأميركية. فهؤلاء كانوا واضحين في رؤيتهم التي كررها بومبيو في المؤتمر الصحافي المشترك مع الحريري بأن «لبنان دولة مهددة من إيران وحزب الله». والإدارة الأميركية في كل مناسبة تعلن عن فرض مزيد من العقوبات على «حزب الله» وقياداته وذهابها إلى الضغط على الدول الأوروبية أو في أميركا الوسطى واللاتينية من أجل تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية وعدم الفصل بين جناحيه العسكري والسياسي.
يقول مطلعون على أجواء محادثات الحريري في واشنطن، أن هاجس الحريري في لقاءاته كان يتركز على إبراز أهمية الدعم الأميركي لمؤتمر سيدر من باب الفصل بين الملف الاقتصادي – المالي وضرورة انقاذ لبنان من الانهيار والملفات الأخرى، ولا سيما تداعيات العقوبات على «حزب الله». وفي هذا الإطار، سمع الأميركيون مطالعة الحريري ومخاوفه من أن شمول العقوبات في مرحلة مقبلة حلفاء للحزب، كما يتم التسريب، سيؤدي إلى تعقيد الوضع في لبنان وتأثيره سلباً على عمل الحكومة. وسمعوا منه مدى التأثير السلبي الذي قد يحدثه تخفيض التصنيف الائتماني للمؤسسات المالية الدولية على الوضع المالي في لبنان، وأنه يحتاج إلى فترة سماح من أجل ترجمة الإصلاحات التي تضمنتها موازنة 2019 وتلك التي سيتم إدخالها في مشروع موازنة 2020. وسمعوا منه بأن لبنان ملتزم بمتابعة مسار المفاوضات التي أطلقتها الحكومة الأميركية في ما يتعلق بالحدود البرية والبحرية.
ولكن الأهم هي القناعة التي تعتري الأميركيين، والأسس الثابتة لديهم، والانطباع الذي خرجوا به من اللقاءات. في القناعة الأميركية لا فصل بين رئيس الجمهورية و«حزب الله». فهم يعتبرون أنه أتى إلى سدة الرئاسة لحماية مصالحهم، وأنه جزء لا يتجزأ من مشروعهم ببعده الاستراتيجي، وهذا هو حال «التيار الوطني الحر»، كما حلفاء الحزب اللصيقين به. أما في الثوابت، فإن مسألة توقيت فرض العقوبات وماهية الأشخاص الذين يمكن أن تطالهم، فهي مسألة تراعي متطلبات الأمن القومي الأميركي وتخضع له فقط وليس لأي اعتبار آخر.
وبالنسبة لواشنطن، فإن المسألة الرئيسة تتمثل بالعقوبات على إيران ومنع الالتفاف عليها من أي دولة أو مؤسسة أو فرد كان. ومن غير المسموح ان يشكل لبنان بمؤسساته ومرافقه ومرافئه وحدوده البرية حديقة اقتصادية ومالية لإيران. فضبط التهريب الذي يحرم الخزينة اللبنانية من العائدات هو شرط من الشروط الموضوعة لتنفيذ المشاريع المتعلقة بـ«سيدر»، ولكن أيضاً عين واشنطن عليها كونها ممراً التفافياً للعقوبات على إيران. أما بالنسبة إلى ترسيم الحدود البحرية، فإن السؤال لا يتعلق في العمق بما إذا كانت إسرائيل راغبة بتسهيل هذا الأمر بل بما إذا كانت إيران راغبة به.
والنصيحة التي سمعها الحريري هي العمل على الحفاظ على القوة الدولية في الجنوب وتعزيز مهامها، إذ أن التقارير الواردة عن حجم اختراق «حزب الله» العسكري لجنوب الليطاني بات مدار بحث حول جدوى وجودها والمساهمة الأميركية في تغطية أعبائها، وأن لا بد من أن تقوم الحكومة اللبنانية بالتعهدات المطلوبة منها وفق القرار 1701 على هذا الصعيد، وأي كلام عن الانتقال من وقف الأعمال العدائية إلى تثبيت وقف اطلاق النار لا يستقيم إذا لم يتم «تنظيف» المنطقة من السلاح غير الشرعي لمصلحة حصر السلاح فقط بالقوات الشرعية التي تبدي واشنطن كل الاستعداد لدعمها.
خرج الحريري من اللقاءات بكثير من الدعم المعنوي للثقة التي يحتلها في المجتمع الدولي، وتفهماً للظروف السابقة التي آلت إلى ذهابه إلى التسوية، ولكنه أيضاً خرج متيقناً من ان دوره كرئيس لحكومة لبنان يفرض عليه أن يكون على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه في حماية لبنان ومؤسساته والتزاماته حيال المجتمع الدولي والتزامات المجتمع الدولي حيال لبنان. خرج الحريري بدعم وفترة سماح ستجعله تحت الاختبار المزدوج. اختبار من الخارج ومن الداخل!