كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
هل يحتاج اللبنانيون إلى تقارير مؤسسات إئتمان عالمية لتكشف لهم حجم الكارثة الاقتصادية التي أوصلتهم إليها الطبقة السياسية؟ وهل الاجتماعات المالية التي تُعقد في صالونات النخبة الحاكمة في البلاد تعبّر بالفعل عن حرص حقيقي على الاقتصاد المهترئ؟ الإجابة عن السؤال الأول هي ببساطة: لا.
إنّ تقارير التصنيف الائتماني للبنان التي صارت حديث الناس، حتى أولئك الجاهلين بالتفاصيل التقنية لهذه التقارير وما تنطوي عليه من تعقيدات، لا يعدو تناولها اليوم مجرّدَ «استعراضات» كلامية في الإعلام اللبناني الباحث عن مادة مثيرة في زمن الانحطاط الذي وصلت إليه الحالة السياسية في لبنان.
وسواء تضمنت التقارير خفضاً لدرجة لبنان أم لا، فإنها لا تُقدّم ولا تؤخّر شيئاً، ذلك أنها في حقيقتها مجرّد تذكير استعراضي بأنّ البلد ذاهب إلى انهيار، وهو أمر بات مسلّماً به، ويمكن لأيّ شخص توقّعُه، إبتداءً من المواطن العادي، الذي صار كالثور الذي يدور حول الساقية، وهو يبحث عن لقمة عيش أبنائه ومصادر تمويل تعليمهم واستشفائهم، وصولاً إلى أيّ شخص متابع للحركة الاقتصادية من زاوية أكثر عمقاً، أكان رجل أعمال، أو صرّافاً، أو صحافياً، أو باحثاً… الخ.
أمّا في ما يتصل بالسؤال الثاني، فكل ما يُعقد من اجتماعات لا ينطبق عليه سوى المثل الشعبي: «ماذا تفعل الماشطة بالوجه العكر؟» أو لو أراد المرء أن يكون أكثر لطفاً: «هل يُصلح العطّار ما أفسد الدهر؟».
ليس في هذين المثلين تجنٍّ على الطبقة الحاكمة، بل من البديهي طرحهما امام هذه الطبقة التي أدمنت إهدارَ الفرص الاقتصادية، بدليل ما حصل أواخر تمّوز، أي بعد حادثة قبرشمون التي تطلّب حلّ تداعياتها 40 يوماً، استنزف خلالها الاقتصاد المحلي الكثير.
تكفي الإشارة إلى أنّ أزمة قبرشمون أتت بعد أسبوعين فقط، من بدء الحديث عن تصنيف لوكالة «ستاندرد أند بورز»، التي حازت في لبنان في هذه الفترة، وبامتياز لقب «مالئة الدنيا وشاغلة الناس».
كما أتت أزمة قبر شمون بعد أشهر قليلة على تقرير «موديز» الذي خفض تصنيف لبنان من مرتبة «المخاطر العالية» إلى «المخاطر الكبيرة»، والذي قاربته النخبة الحاكمة بطيش هائل، والدليل على ذلك تأخير إقرار الموازنة لقرابة نصف عام!
ممّا لا شك فيه أنّ التقرير المرتقب اليوم لـ«ستاندرد أند بورز» يأخذ في الحسبان كافة التفاصيل المرتبطة بالمناخ السياسي والاقتصادي المترابطين، ليبني على الشيء مقتضاه، وبالتالي ما هو الّا تقرير يشكل انعكاساً بلغة الأرقام لكل ما تلمّسه اللبنانيون من فجور النخبة الحاكمة في بلدهم، وكل الأزمات السياسية والتخبّطات التي عايشوها ولمسوها طوال الأشهر الماضية.
ثمة حاجة أولاً إلى تبسيط فكرة التصنيف، لتحديد المسؤوليات، واستشراف المستقبل. فبشكل عام، يدور الحديث اليوم عن سيناريوهين متصلين بالتصنيف المرتقب:
السيناريو الأول، هو صدور تصنيف جديد للبنان من B- إلى CCC+.
السيناريو الثاني، هو إرجاء صدور التقرير فترة ستة أشهر ليتمكن لبنان من تجاوز استحقاقات داهمة أبرزها موازنة عام 2020، ومشاريع «سيدر»، والتنقيب عن النفط والغاز، وتطبيق خطة «ماكنزي».
في كل الأحوال، فإنّ تصنيف لبنان الحالي هو B-، أي أنه تصنيف متدنّ أصلاً، وبالتالي فإنّ الخفض إلى الدرجة الأدنى، وهي CCC+، لا يعني أنّ اللبنانيين سيصحون بعد صدور التقرير الجديد على حالة إفلاس للاقتصاد، وإن كان الأمر يعني أنّ البلاد تسير بخطى وثيقة نحو الإفلاس، الذي سيأتي عاجلاً أم آجلاً، ما لم يتم استدراك الأمر سياسياً واقتصادياً، هذا ما يقوله الخبراء الاقتصاديون..
لتبسيط المعادلة أكثر، وبالاستناد الى رأي الخبراء، ثمّة ضرورة لمعرفة المعايير التي تبني عليها الوكالات الدولية تصنيفها، والتي يمكن حصرها بخمسة عناصر:
– أولاً، المناخ السياسي الذي يترك تداعيات لا يشكك فيها أحد على الاقتصاد، إن لناحية البيئة الاستثمارية ودخول الأموال، ويكفي النظر إلى كل الأزمات التي شهدها لبنان خلال الفترة الماضية، ليتبيّن أنها كانت نتيجة لمناكفات سياسية وصراعات صبيانية، والتي بلغت ذروتها بعد أحداث الجبل وانعكست شللاً حكومياً لأربعين يوماً.
– ثانياً، نسبة النموّ الاقتصادي التي بلغت بحسب الأرقام الرسمية صفراً في المئة في النصف الأول من العام الحالي، هي نتيجة حتمية لأجواء التوتر السياسي، البارد حالياً بلا أيّ سبب مقنع، والمرشح بالتالي الى أن يعود الى السخونة في أيّ لحظة، بالنظر الى هشاشته وانعدام النيات السياسية للانعطاف بهذا التوتر نحو التبريد الجدّي والصادق والمسؤول، أو بمعنى أدقّ، عدم خروج القوى السياسية المتصارعة من خلف متاريس الاشتباك، فما هو حاصل حالياً لا يعدو أكثرَ من اتّفاق على وقف اطلاق النار، أشبه بتلك الاتفاقات التي كانت تحصل إبّان الحرب.
– ثالثاً، ميزان المدفوعات، الذي يشهد نزفاً مستمراً، برغم الهندسات المالية وتشعّباتها، التي غالباً ما تبدو مضيعة للوقت في ظل المناخ السياسي المتوتر، الذي يفقد الثقة العامة بالعملة الوطنية يوماً بعد يوم، بدليل البلبلة التي تشهدها أسواق الصرف خلال كل أزمة، والتي تطاول حتى أصغر المودعين الذين أخذوا يبحثون عن سبل لتحويل أموالهم، أيّاً كان حجمها، من الليرة اللبنانية إلى الدولار والعملات الاجنبية الاخرى.
– رابعاً، الإصلاحات الاقتصادية التي تبدو متعثرة أيضاً نتيجة للتناقضات والخلافات المستمرة بين أطراف الطبقة الحاكمة.
– خامساً، الفساد العام الذي ترعى محمياته في الوزارات والادارات، عقلية التحكم وغرف المال.
كل ما سبق، يعني بكل بساطة، أنّ التصنيف المرتقب للبنان ليس سوى تقييم للسياسات القائمة، أي أنه نتاج لما جنته الطبقة الحاكمة على الاقتصاد الوطني، ابتداءً بمناكفاتها السياسية وصولاً إلى تقاسمها عائدات الفساد الذي بات سرطاناً متفشياً في كل الوطن.
لا شيء في الأفق يشي بحلٍّ يقي لبنان خطر الانهيار والإفلاس، بصرف النظر عن الاجتماعات الاقتصادية المتكررة، بما في ذلك «اجتماع بعبدا» الموسّع والطارئ، الذي يبدو مجرّد محاولة إنقاذية في الوقت الضائع لا يمكن لها أن تنجح إلّا بحدوث انقلاب جذري في العقليات الحاكمة، وتوافر القرار الإنقاذي الصحيح والملزم لأصحابه قبل ايّ أحد آخر.
لم يعد اللبنانيون يصدّقون شيئاً من هذا، وحتى إن صدّقوا، فإنّ مناظير مؤسسات التصنيف الائتمانية، لا يحجب الرؤية عنها، الرماد المنثور من هنا وهناك.
تدرك مؤسسات التصنيف أنّ الحكومة اللبنانية لم تقم بأيّة خطوة في مجال الإصلاحات الاقتصادية، وهو ما يمكن رصدُه بنظرة تمحيص مجهرية للموازنة «التقشّفية»، الخالية من أيّ إنفاق استثماري من شأنه أن يحفّز النموّ.
وتدرك مؤسسات التصنيف أيضاً أنّ كل ما حُكي عن خفض للعجز في الموازنة هو مجرّد خدعة، يفضحها التأخير في إصدار موازنة عام 2019، لسبعة أشهر، جرى خلالها الإنفاق على أساس القاعدة الإثنتي عشرية، أي بنسبة العجز السابقة.
وتدرك المؤسسات ذاتها أيضاً أنّ إعادة هيكلة الدين العام محكومة باعتبارات تجعل الأمر يتّسم بالكثير من التخبط. ثم لا حاجة لأيّ من مؤسسات التصنيف لتلمّس غياب أيّة جهود فعلية للحدّ من الفساد في ما عدا التصريحات الفارغة الصادرة عن بعض السياسيين.
ما سبق، يجعل تقرير «ستاندرد أند بورز» المرتقب محطة متجدّدة لقرع ناقوس الخطر. قد يحدث تخفيض التصنيف صدمة كبرى، يفترض المنطق أن تدفع باتجاه استدراك المخاطر المحدقة بلبنان، وقد يكون تأجيل خفض التصنيف فرصة إضافية ممنوحة للبنان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. مع ذلك، فإنّ التجارب السابقة تشي بأن لا تغيير قادماً… فعلى مَن تقرأ مؤسسات التنصيف مزاميرها؟!