كتب جمال عزام في “نداء الوطن”:
على رغم الانشغال الرسمي بالملف الاقتصادي، ظلّت مواقف رئيس الجمهورية ميشال عون المستجدّة من موضوع الاستراتيجية الدفاعية تتردد أصداؤها في أروقة السياسة، من زاوية السؤال المتكرر: ما الذي أعاد طرح ملف الاستراتيجية الدفاعية؟
الإجابة يقدمها المعارضون للعهد وتتمثل بتصاعد حدة العقوبات الأميركية والتهديد بتوسيع دائرة العقوبات لتشمل حلفاء “حزب الله” من المسيحيين وفي مقدمهم فريق “الوطني الحر”، وتزامن ذلك مع موقف عربي بارد من الحكومة يفرّق بين دعم لبنان ودعم مشروع إيران فيه، وفي أجواء إقليمية تشهد تشديداً أميركياً للحصار على إيران ما انعكس سلباً على مالية “حزب الله” وحلفائه. طُرح ملف الاستراتيجية في ظل مخاطر اقتصادية ومالية جدية يعاني منها لبنان. وأمام هذه الظروف، أتت محادثات الرئيس سعد الحريري في واشنطن وما رافقها من موقف أميركي صلب من “حزب الله” وداعميه، والطلب الواضح من الحريري هو الفصل بين مؤسسات الدولة و”حزب الله” والتوقف عن تأمين الغطاء السياسي والمعنوي لمشروعه، كي لا تشمل العقوبات والتدابير الحكومة ومؤسساتها، أو على الأقل كي لا تتأثر في شكل مباشر بها.
ويضاف إلى ذلك، استعراض الحزب قوته الصاروخية لاستنهاض قواعده ومحاولة الحد من موجة التململ الناجمة عن انعكاس العقوبات على بيئته الحاضنة، من خلال أفلام توثّق الصواريخ التي يملكها في لبنان وكان استخدم بعضاً منها في حرب تموز 2006، الأمر الذي وجّه صفعة لكل جهود الحكم بمحاولة نفي وجود مثل هذه الصواريخ، ووضعه في مأزق جدي تجاه المجتمعين العربي والدولي لا سيما لناحية الالتزام بمضامين القرار 1701 الذي يمنع إدخال الأسلحة واقتنائها في لبنان لغير القوى الشرعية. وجاء ذلك عشية موعد التجديد لفترة انتداب قوات الطوارئ الدولية في الجنوب والكلام الأميركي عن عدم الاستعداد للمضي قدماً في تمويل هذه القوات، نتيجة لعدم مساعدتها من جانب الجيش اللبناني والحكومة اللبنانية في القيام بدورها لا سيما لناحية التحقيق في مسألة الأنفاق العابرة للحدود، وانتشار الصواريخ والمنشآت العسكرية التابعة لـ”حزب الله” في منطقة عمل القوات الدولية جنوب نهر الليطاني.
وتروي أوساط معارضة للعهد أنه يوم الإثنين 19 آب 2019، وبعد ثلاثة أيام على خطاب السيد حسن نصرالله في 16 آب، وبعد عرض قناة “المنار” فيلماً يوثق القدرات الصاروخية لـ “الحزب”، واكب عون كلام نصرالله، فقال رداً على سؤال خلال دردشة مع الإعلاميين في قصر بيت الدين: “تغيّرت حالياً كل مقاييس الاستراتيجية الدفاعية التي يجب أن نضعها. فعلى ماذا سنرتكز اليوم؟ حتى مناطق النفوذ تتغير. وأنا اول من وضع مشروعاً للاستراتيجية الدفاعية. لكن هل لا يزال صالحاً الى اليوم؟”.
كلام اعتبره المعارضون تغطية جديدة لسلاح “حزب الله”، وهروباً من استراتيجية دفاعية تضع السلاح بإمرة الدولة، ما اضطر رئاسة الجمهورية لإصدار بيان توضيحي في 20 آب، تؤكد فيه أن ما قاله عون حول موضوع الاستراتيجية “كان توصيفاً للواقع الذي استجد بعد عشر سنوات على طرح هذا الموضوع خلال جلسات مؤتمر الحوار الوطني، لا سيما التطورات العسكرية التي شهدها الجوار اللبناني خلال الأعوام الماضية والتي تفرض مقاربة جديدة لموضوع الاستراتيجية الدفاعية تأخذ في الاعتبار هذه التطورات، خصوصاً بعد دخول دول كبرى وتنظيمات ارهابية في الحروب التي شهدتها دول عدة مجاورة للبنان، ما أحدث تغييرات في الاهداف والاستراتيجيات لا بد من أخذها في الاعتبار”.
وتتطرق الاوساط المعارضة إلى خلفيات موقف عون، وتوضح: “في ظل المناورة التي يسمح بها حزب الله ومن خلفه إيران للحكومة اللبنانية بالتفاوض مع أميركا في شأن ترسيم الحدود البرية والبحرية مع إسرائيل، خصوصاً في ظل الدور المتقدم في هذه المفاوضات لحليف الحزب والمفوض من قبله الرئيس نبيه بري، وفي ظل إمكان بروز من يقول بأنه طالما أن لبنان يقبل بالتفاوض مع إسرائيل على ترسيم الحدود وأن الحكومة اتبعت “استراتيجية التفاوض مع إسرائيل” فما هي الحاجة بعد ذلك لسلاح حزب الله وصواريخه؟ سعى رئيس الجمهورية إلى إيجاد دور جديد لسلاح الحزب لتبرير بقائه، وهو الأوضاع الإقليمية المستجدة” بحجة محاربة “الإرهاب”.
اما لجهة توقيت إثارة الاستراتيجية من جديد، فإن مراجعة تاريخية منذ العام 2005 إلى اليوم تظهر أن إثارة الموضوع كان يحصل في كل مرة يشتد فيها الضغط العربي والدولي على سلاح “الحزب”، لا بهدف التجاوب مع هذه الضغوط واستفادة الحكومة منها لإخضاع هذا السلاح للدولة اللبنانية، وإنما بهدف كسب الوقت والتخفيف من الضغط على “الحزب”، وإعطائه الوقت الكافي لاستيعاب الهجمة الدولية وتشتيتها، وفي انتظار ظروف تطوي الحماسة العربية والدولية وتشغل الشرعيتين العربية والدولية بملفات تسمح للحزب بمزيد من قضم مؤسسات الدولة والمضي قدماً في السيطرة عليها وعلى لبنان”.
في العام 2006 وبعد انسحاب الجيش السوري من لبنان تطبيقاً للقرار 1559، وبعدما جاء دور الفقرة المتعلقة بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، نجح بري في استدراج القوى السيادية إلى “طاولة الحوار”، وفي تبريد الهمّة العربية والدولية لإكمال تنفيذ القرار بحجة الإفساح في المجال أمام اللبنانيين لإيجاد صيغة لحل المعضلة، إلى أن كانت حرب تموز 2006، التي انتهت بالقرار 1701 (وهو يتضمن تأكيداً على وجوب تنفيذ القرار 1559) فنجح “حزب الله” وحلفاؤه بإشغال الجميع بالفراغ الرئاسي بعدما كانت الولاية الممددة للرئيس إميل لحود قد انتهت من دون انتخاب رئيس جديد، وصولاً إلى غزوة بيروت ومهاجمة الجبل في أيار 2008. لينجح “الحزب” بعدها في استدراج اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي إلى “اتفاق الدوحة” الذي نظّم انتخاب رئيس جديد للجمهورية واعتماد قانون للانتخابات النيابية التي كانت مقررة في العام 2009، وإحياء الحوار في شأن سلاح “حزب الله” برئاسة رئيس الجمهورية المنتخب ميشال سليمان وبرعاية جامعة الدول العربية. لكن الأخيرة أحجمت عن المشاركة في أعمال “هيئة الحوار الوطني” في وقت انتزع “حزب الله” الثلث المعطل في الحكومات التي تلت اتفاق الدوحة، وصولاً إلى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري وتشكيل ما عرف حينها بـ”حكومة القمصان السود” التي أخرج منها كل قوى 14 آذار باستثناء “التقدمي الإشتراكي”. فخطا “حزب الله” بذلك خطوة جديدة في اتجاه مزيد من قضم المؤسسات.
ومع بداية الأزمة السورية العام 2011 وتدخل الحزب فيها عسكرياً دعماً لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، عاودت “هيئة الحوار الوطني” عملها، وبعد طول مماطلة في مقاربة ملف السلاح غير الشرعي، نجح الرئيس سليمان بتمرير “إعلان بعبدا” الذي ينص على النأي بالنفس عن سوريا والبدء ببحث الاستراتيجية الدفاعية. لكن “الحزب” انقلب في اليوم التالي على الإعلان وتابع تدخله في سوريا، الى أن انتهت ولاية سليمان العام 2015 كما انتهت ولاية لحود بمنع “الحزب” وحلفائه انتخاب رئيس للجمهورية ما لم يكن مرشح “الحزب” العماد عون، وهو ما سمح لـ “الحزب” بمتابعة قضمه للدولة، لا سيما في ظل رضوخ القوى السيادية لشروط “الحزب” الرئاسية والحكومية والنيابية.
بعد انقضاء نحو 3 سنوات على “التسوية”، تبيّن للمجتمعين العربي والدولي أنّ هذه “التسوية” سمحت لـ”حزب الله” بإيصال حليف يغطي سلاحه ومشروعه الإيراني، وبالتحكم بتركيبة الحكومة وقانون الانتخاب الذي أوصل لـ “الحزب” وحلفائه أكثرية نيابية لم يحصل عليها منذ العام 2005.