قد تكون الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية ومواقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة في قوسايا البقاعية دفعت المعطى الأمني المتفجر في المنطقة إلى الواجهة مجددا. غير أن هذا لا ينفي أن رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري، والفريقين المحسوبين عليهما، ماضيان في خريطة الطريق التي رسماها لمرحلة ما بعد إعادة ضخ الحياة في عروق الحكومة. ذلك أن منذ لقاء المصارحة والمصالحة الذي استضافته بعبدا في 9 آب الجاري، معطوفا على الاجتماع المالي الذي عقد في القصر الجمهوري في اليوم نفسه، بدا الحريري واضحا في تحديد أولويات المرحلة المقبلة: بعد طي الصفحة الأمنية التي خطتها حادثة البساتين، ستركز الحكومة على الوضعين الاقتصادي والمالي. العين الدولية تراقبها بكثير من الدقة والترقب، في ضوء مقتضيات “سيدر” الإصلاحية، التي يعتبرها المانحون شروطا أساسية من المفترض أن تلبيها الحكومة لتنال المساعدات الموعودة.
وفي وقت اعتدت الحكومة والغالبية الساحقة من القوى الحاضرة فيها بالنجاح في إقرار موازنة تقشفية تلحظ عجزا بنسبة 7.5% للمرة الأولى في تاريخ لبنان، أتى التصنيفان الائتمانيان السلبيان للبنان من جانب وكالتي “موديز” و”فيتش”، بعد المخاوف التي أثارها هذا الاحتمال في الأوساط الرسمية والشعبية، ليؤكدا هشاشة الوضع الاقتصادي وضرورة حله من خلال حوار وطني جامع يحضره رؤساء الكتل النيابية في بعبدا في 2 أيلول المقبل، برعاية رئيس الجمهورية.
على أن ضرورة ايجاد الحلول للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد لا تعني فصل الحوار الاقتصادي عن السياق السياسي الذي يأتي فيه. ذلك أن المبادرة التي أطلقها رئيس الجمهورية تحل فيما العلاقات السياسية بين لاعبي الداخل تترنح على حبال الكباشات والزكزكات السياسية المعهودة، وإن كان السواد الأعظم من الأطراف سيحضر حوار بعبدا، من باب ضرورة الاستجابة، على الأقل في الشكل، للدعوة الرئاسية.
وفي السياق، أكد مستشار الرئيس الحريري، النائب السابق عمار حوري، لـ”المركزية”، أن “تيار “المستقبل” سيشارك في الحوار الاقتصادي المرتقب ممثلا برئيس الحكومة سعد الحريري، بطبيعة الحال”. وهذه أيضا حال حركة “أمل” التي سيكون رئيسها نبيه بري ممثلا لها إلى الطاولة من موقعه رئيسا لمجلس النواب، علما أن الدعوة الرئاسية تشمل، على ما أشارت إليه المعلومات، رؤساء الأحزاب والكتل الممثلة تحت قبة البرلمان.
وكما في أكثرية الملفات السياسية، لن يخالف “حزب الله” الأقنوم الآخر في الثنانية الشيعية التاريخية، من حيث النظرة إلى طاولة بعبدا الاقتصادية، علما أن الضاحية كانت، بلسان النائب حسن فضل الله، من المبادرين إلى إطلاق ما يمكن اعتبارها معركة مكافحة الفساد وتصحيح المالية العامة الغارقة في أتون العجز منذ عقود. من هذا المنطلق، سيكون “حزب الله” حاضرا في الجلسة، على ما أكدت مصاد مقربة منه لـ”المركزية”، رافضةً حسم اسم ممثل الحزب. غير أن مراقبين يتوقعون أن يرسو الخيار على رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد، الذي مثل الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله إلى الطاولات الحوارية السابقة.
أما على ضفة بنشعي، فإن العلاقات “المتوترة” بين الدائرين في فلك العهد وتيار “المردة” قد تدفع البعض إلى الكلام عن أن “التيار” قد يغيب عن الطاولة الحوارية، التي من المفترض أن يمثّل الوزير جبران باسيل “التيار الوطني الحر” إليها. غير أن بعض المطلعين على مجريات الكواليس السياسية يذكّرون بأن زعيم “المردة” سليمان فرنجية أكد مرارا وتكرارا استعداده لزيارة قصر بعبدا “إذا دعاه رئيس الجمهورية”، لافتين إلى أن الزعيم الشمالي الحاضر في الحكومة بشخص وزير الأشغال يوسف فنيانوس (الذي لم يتوان عن الإشادة بالموقف الرئاسي الأخير إزاء الاعتداءات الإسرائيلية) كان حضر الورشة الاقتصادية التي أقيمت في بعبدا في 22 حزيران 2017. حتى أن عدسات المصورين رصدت بدقة آنذاك مصافحة بين فرنجية وعون، من جهة، وفرنجية وخصمه التاريخي، رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع.
وإذا كانت المصالحة التاريخية، هي الأخرى، التي أبرمها الرجلان بينهما في تشرين الثاني 2018، تجعل البعض يعتبرون أي مصافحة بينهما في بعبدا مشهدا طبيعيا مألوفا، فإن أحدا لا يشك في أن الأنظار ستتجه أولا إلى المشاركة القواتية أو عدمها في اجتماع بعبدا.
وفي السياق، لفتت أوساط مراقبة عبر “المركزية” إلى أن حوار بعبدا سيعقد فيما العلاقات بين معراب وثنائي بعبدا- ميرنا الشالوحي تمر في واحدة من أدق مراحلها المطبوعة بالكباشات السياسية، والتي كان آخرها السجال في شأن أحد الأعضاء الموارنة في المجلس الدستوري، مشيرة إلى أن الحوار الرئاسي يعقد أيضا بعيد الهجوم التلفزيوني الأخير من جانب رئيس “القوات” في اتجاه الوزير جبران باسيل، علما أن سهامه لم توفر، وللمرة الأولى منذ توقيع تفاهم معراب، رئيس الجمهورية شخصيا.
وتنبه الأوساط إلى أن الحوار الاقتصادي يلتئم غداة قداس شهداء المقاومة المسيحية الذي يقام في معراب في أول أيلول، حيث من المتوقع أن يغتنم جعجع فرصة إطلالته على المناصرين والحلفاء والخصوم ليضع النقاط على حروف الأداء السياسي والحكومي ويوجه الرسائل السياسية إلى العهد، ما من شأنه أن يقلص حظوظ مشاركة جعجع شخصيا في الحوار.
وفي الانتظار، أكدت مصادر معراب لـ”المركزية” أن “القوات تلقت دعوة إلى الحوار، غير أن المشاركة أو عدمها لا تزال موضع تمحيص داخل الأروقة الحزبية، علما أن القوات كانت أول من قدم أفكارا للخروج من الأزمة الاقتصادية”، مشيرة إلى أن “القوات لم ترفض الموازنة التي أقرها المجلس النيابي أخيرا، إلا لأنها لم تقترن بخطوات إصلاحية عملية، على اعتبار أن أي خطوة حل يجب أن تقترن بخريطة حل واضحة وعملية لتؤدي الغرض منها”.
أما في ما يتعلق بالحزب “التقدمي الاشتراكي”، الذي طوى أخيرا صفحة التصعيد السياسي في مواجهة العهد وفريقه بعيد حادثة البساتين، فإن إعلان الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط من على منبر بيت الدين يوم السبت الفائت “عزم الرئيس عون دعوة المسؤولين إلى حوار اقتصادي لنتحمل جميعا مسؤولياتنا في هذا الشأن”، بدا بمثابة تأكيد لمشاركته في هذه المبادرة، علما أن أي موقف رسمي لم يصدر حتى اللحظة عن الاشتراكي في هذا الشأن.
وفي وقت شملت الدعوة كل الأطراف الحاضرة في الحكومة (بما فيها “اللقاء التشاوري” بشخص النائب جهاد الصمد)، فإن المعارضة مدعوة بدورها إلى حضور هذا الحوار، ممثلة برئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميل الذي أعلن عبر “تويتر” أنه تلقى اتصالا من رئيس المجلس النيابي نبيه بري للحضور إلى بعبدا.
وعما ستحمله الكتائب إلى المشاركين، أكد الوزير السابق آلان حكيم لـ”المركزية” أن “أول اقتراح إصلاحي نحمله يكمن بطبيعة الحال في تقليص حجم القطاع العام في إطار سياسة تقشفية واضحة”.
وإذ اعتبر أن حضور المعارضة خطوة إلى الأمام، أشار إلى أن “ذلك سيمكنّنا من أن نقدم أفكارنا ونطرح هواجسنا من موقعنا الراهن في المشهد السياسي”، مشددا في الوقت نفسه على أن “مشاركتنا تهدف أولا إلى طرح الحلول لأننا خارج السلطة، بل إلى منع الانحرافات، ورصد مدى الارتباط بين شروط سيدر والموازنة العامة لـ2020، خصوصا أن الأرقام في موازنة العام الجاري جاءت مغلوطة”.
وأكد حكيم أن “الأولوية اليوم يجب أن تكون للاقتصاد دون سواه، لأن الأزمة الاقتصادية الراهنة تشبه الحرب الشاملة التي تهدد المواطن اللبناني”.