كتب د. انطونيوس ابو كسم في صحيفة “الجمهورية”:
في ذكرى السنتين لمعركة فجر الجرود، وفي ظلّ استمرار اعتداءات العدّو الاسرائيلي انتهاكاً للسيادة اللبنانية، وبعد استعراض إنجازات الجيش اللبناني في المعارك، بات من الملحّ وضع استراتيجية دفاعيّة عسكريّة من نوعٍ آخر، خصوصاً في ظلّ تكاثر المجموعات المسلحّة التي تنذر بنزاعات هدفها تهديد الكيان وقلب موازين القوى.
في الواقع، تتكاثر «الفزاعات» لتشرّع بقاء السلاح في أيدي مجموعات، بدءاً من فزاعة الخطر الحقيقي المتمثل بالعدوّ الاسرائيلي مروراً بفزّاعة المجموعات المتطرّفة على الحدود السورية اللبنانية وصولاً إلى المجموعات الإرهابية في الداخل. وكأنّ تحرير فلسطين المحتلّة أصبح يمرّ بلبنان وتحرير سوريا من الجماعات الإرهابية أيضاً.
أمّا بخصوص فزاعة الإرهاب في الداخل، فعلى رغم من أنّ مخيّم نهر البارد كان خطاً أحمر، استطاع الجيش اللبناني وحيداً من هزيمة «فتح الإسلام» على رغم من المتآمرين الذين تطوّعوا لتهريب شاكر العبسي حتّى لا يكون نصر الجيش ألماسياً، أمّا الإرهاب على الحدود، وبعد المراوغة السياسية لسنوات بذريعة النأي بالنفس عن الحفاظ على سيادة الحدود اللبنانية، إرضاءً لدولٍ إقليمية ومجموعات مسلّحة محلّية نصرة للدين، اتّخذت قيادة الجيش قرارها بتحرير جرود السلسلة الشرقيّة على رغم من التهويل والجبن السياسي. أنجز الجيش بمفرده عمليّة فجر الجرود وسط محاولات تشويش تلتها محاولات لتقاسم النصر. وكالعادة، صدر الأمر السياسي بإيقاف آخر مرحلة من المعركة حتّى لا يكون نصر الجيش إلهياً.
بعد الطائف أدّت «لبننة» «حزب الله» إلى أن يصبح المقاومة الوحيدة والحصريّة في وجه العدوّ. وتمّ إدخال الجيش في معادلة «الجيش الشعب والمقاومة»، وكأنّ الجيش منفصل عن الشعب، وكأنّ الجيش لا يقاوم، في حين أنّ الجيش هو ابن الشعب وأنّ مقاومة العدوّ هي في صلب عقيدته وتشكّل واجبه الأساسي.
هذه المعادلة، أدّت إلى إسقاط معادلات أخرى، أبرزها سقوط معادلة سلاح المخيّمات الفلسطينيّة. فالسلاح الفلسطيني لم يعد مبرراً كونه لم يعد يهدف لمقاومة العدوّ، بل حماية بؤرٍ أمنيّة داخل المخيّمات، حيث تحوّل إلى فزّاعة بدءاً من عين الحلوة مروراً بشاتيلا وصولاً إلى نهر البارد، وبذلك انتفى هدفه.
وبعد الطائف، تمّ نزع سلاح بعض الميليشيات، وأبقي في أيدي أخرى اتّخذت شكل أحزابٍ سياسية تدّعي مقاومة إسرائيل. إلّا أنّ جزءاً منها استعمل في الداخل وليس بوجه العدوّ، كحروب طرابلس والشّراونة وأيار والجاهلية وقبرشمون. بوجه مَن هذا السلاح؟
وما هي الفزاعات المستجدّة ليبقى السلاح في يد مجموعات مسلحة؟ أمام هذا الواقع، حريّ بالدولة أن تضع استراتيجية دفاعية للداخل. للأسف أظهرت الأحداث، أنّ السلاح متفشٍّ بكثافة في يد فئات عديدة من اللبنانيين دون أخرى، وهذا انتهاك لسيادة الدولة وخطر على السلم الأهلي.
بالطبع ليس كلّ هذا السلاح مرخصا،ً وإن كان مرخصاً، فما هي دواعي منح التراخيص؟ ما هي الفزّاعة الوهميّة؟ لا أحد ينكر أنّ عديد القوى الأمنيّة كافٍ لاستتباب الأمن أقلّه في الداخل إذا لم يحرّم عليهم دخول مناطق أمنيّة.
جاء القرار 1559 كالصاعقة، نتيجة قمّة الرئيسين بوش شيراك في ذكرى النورماندي – 2004، وإن كان التوقيت الظاهر للقرار يتعلّق باستحقاق دستوري، إلّا أنّ مضمونه أضفى طابعاً دولياً ملزماً على جزء من الطائف بموجب المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة، حيث جاء في قسمه الإجرائي أنّ مجلس الأمن يطالب جميع القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان، ويدعو إلى حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها.
رافق صدور الـ1559 اغتيال الرئيس الحريري وشخصيات أخرى، انسحاب الجيش السوري وعدوان 2006 بدلاً من أن ينسحب الجيش الإسرائيلي تطبيقاً للقرارات الدولية، شنّ حرباً شرسة ضدّ لبنان انتهت بصدور القرار 1701 كتبنٍ إضافي للقرارين 1559 و1680 وليضع حداً لتسلّح «حزب الله» ولنطاق عملياته.
أمّا طاولات الحوار تحت مظلّة البرلمان ورئاسة الجمهورية فانعقدت تلبيةً لطلب أممي، بهدف إيجاد حلٍ لمسألة سلاح «حزب الله» يحفظ ماء الوجه مع المجتمع الدولي تحت تسمية الاستراتيجية الدفاعيّة. استطاع الأقطاب التوصّل إلى إعلان بعبدا كوثيقة تنفيذية لقرارات الشرعية الدولية من دون الذكر العلني للقرار 1559 الذي يثير حساسية كبيرة.
إنّ تطبيق الـ1559 و1701 يستدعي ملاحظات عدّة. بما أنّهما يهدفان إلى الاحترام التّام لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية، إنّ جدّية تطبيقهما تكمن بانسحاب العدوّ الاسرائيلي من الأراضي المحتلّة دون أيّ قيد أوشرط. فالتذرّع بفزّاعة المقاومة يخدم العدوّ كحجّة لتوسيع حزامه الأمنيّ.
وبالتالي إنّ تطبيق هذين القرارين هو غير منطقيّ، حيث يطالبان بنزع سلاح حزب لبناني كأولويّة مطلقة ويغضّ النظر عن انتهاكات الاحتلال والسلاح الآخر وصولاً لحمايته.
وبالتالي، إنّ الوصول حالياً لاستراتيجية دفاعية حسب معايير المجتمع الدولي أمرٌ مستحيل، حيث ليس من الممكن واقعياً إقناع الحزب بتسليم سلاحه للدولة تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن ولمقرّرات مؤتمر روما حول تسليح الجيش. فما الغاية من الاستراتيجية الدفاعية، أهي تطوير الدفاع العسكري بوجه العدوّ؟ واقعياً، إنّ المجتمع الدولي لا يقبل بأيّة استراتيجية دفاعية يكون «حزب الله» فيها شريكاً وهذا ينعكس على تسليح الجيش.
أمّا على المستوى الداخلي، وقبل البحث في استراتيجية دفاعية، الأولويّة لنزع سلاح الميليشيات الأجنبيّة الذي ليس له أيّ مبرّر، إضافة إلى سلاح مخيّمات المهجّرين السوريين المستحدث والذي سيتحوّل في المستقبل المنظور إلى فزّاعة جديدة ستشكّل ذريعة لتسلّح آخرين. أمّا سيادة الدولة فتقتضي بأن تقوم قيادة الجيش برسم سياستها الدفاعية بسرّية تامّة، فالجيش هو المختصّ برسم إطار مشاركة الشعب معه.
أيّة دولة عاقلة تبحث استراتيجية دفاعها في الإعلام وبمشاركة سياسيين حسب تمثيلهم الطوائفي؟ إنّ القرارين 1559 و1701 سيشكلان عقبة جدّية بوجه أية استراتيجية دفاعية تبحث بالشراكة مع المقاومة. إنّ الديبلوماسية اللبنانية مدعوّة لإلقاء الضوء على التطبيق الكيفي والانتقائي لقرارات مجلس الأمن بدلاً من اعتماد الجواب التقليدي أنّ الحزب هو مكوّن أساسي وممثل في البرلمان والحكومة.
كلّ سلاح يُستعمل في الداخل يشكّل مسّاً لهيبة الدولة ويقتضي القضاء عليه صوناً للسيادة، فسلاح الدولة هو الحامي الوحيد والذي يجب أن يصبح الضمانة لكلّ مواطن في الداخل وعلى الحدود الدوليّة حيث إنّ الدستور اللبناني أناط قرار الحرب والسلم بمجلس الوزراء.