خَرَقَ رئيسُ الوزراء، وزير الدفاع الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قواعد الاشتباك في العراق ولبنان، وكأنه يقول إنه مستعدٌّ للحرب ويريد أن يكون أداة اشتعالها. ففي لبنان خرْقت (فجر الأحد) للمرة الأولى منذ العام 2006 طائرتا استطلاعٍ الضاحية الجنوبية وانفجرتْ إحداهما بظروفٍ غامضة.
إلا أن اللافت الأكثر في الأمر، هو الهجوم الإسرائيلي فجر أمس على قاعدة لـ«الجبهة الشعبية – القيادة العامة» في البقاع اللبناني والتي تتواجد هناك منذ العام 1982، وهو الهجوم الذي جاء بعد ساعات من تهديد الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله بضرب إسرائيل رداً على استهداف مزرعة تابعة للحزب في سورية وقتْل مقاتليْن فيها. وهذا يدل على نية نتنياهو بقبول التحدي والنتائج التي ستنتج عنه وأنه ماضٍ في سياسة الاستفزاز و«اليد الطويلة» واللعب على حافة الهاوية وحتى التصعيد أكثر.
ولو كان افتراضاً أن الغموض الذي أحاط بخرق الطائرتين المسيّرتيْن يعطي «العذر» لنتنياهو، خصوصاً أن ما أشيع عن الهدف حيث وقع الانفجار (الوحدة الإعلامية لـ«حزب الله») لا يمثل أي معنى و«رخيص وغير جدي»، بحسب وصْف مسؤول في «محور المقاومة»، فإن المعهود على إسرائيل أنها لا تخاطر بأي ضربة أمنية داخل بيروت، وللمرة الأولى منذ 2003 إلا إذا كان الهدف أمنياً ومهماً للغاية.
وافتراضاً أن الاستخبارات الإسرائيلية أخطأتْ بضرب مركز «حزب الله» في عقربا – سورية، لاعتبارها عادة أن أي تواجد للحزب يعني تواجداً لقوات «فيلق القدس» الإيراني، وتالياً أن الهدف كان إيران، فإن ضربة إسرائيل المسائية للقاعدة الفلسطينية المحصنة في الكهف في البقاع اللبناني لا تسمح أي مجال لتفسير آخر… لقد قبِل نتنياهو تحدي نصرالله وهو لن يتوقف عن سياسته ضرب أهداف يريد الوصول إليها لبعث رسائله السياسية والعسكرية.
لقد اشتهرت إسرائيل بقواعد ثلاث منذ وجودها: جيشٌ لديه شعب ودولة، خوض معارك بين الحروب، ودرء الخطر الوجودي في أي بقعة من الأرض بضرْبها أو شلّها. وليس بجديد على إسرائيل ضرْب أهداف بعيدة لأغراض متعدّدة. فالعراق وسورية ولبنان وإيران ومصر والأردن يتواجدون على رأس اهتماماتها القريبة ويبقى باقي العالم كله على اهتماماتها البعيدة.
ففي العام 1960 ذهبت إسرائيل إلى بوينس إيرس لإلقاء القبض على أدولف إيخمان، القائد العسكري النازي لمسؤوليته عن جرائم «الهولوكست». وأرسلت فرقة اغتيال إلى بيروت العام 1973 لقتل المسؤولين الفلسطينيين كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف نجار. وأرسلتْ فرقة اغتيالات إلى تونس العام 1988 لاغتيال القائد العسكري الفلسطيني خليل الوزير المعروف باسم «أبو جهاد».
وفي 1981 دمّرت طائراتها المفاعل العراقي بسربٍ مؤلف من 14 طائرة. وأرسلت فرقة إلى سورية العام 2008 لقتْل المسؤول العسكري في المجلس الجهادي لـ«حزب الله» الحاج عماد مغنية. وكذلك فعلت مع محمود المبحوح العام 2010.
إذاً لا حدود لإسرائيل لحماية نفسها من الأخطار أينما كانت، تحت عنوان إبعاد الأخطار المستقبلية عنها والمبادرة إلى الضرب أولاً لحماية «الأمن القومي». فهي تعتبر أنها تعيش في بيئة شرق أوسطية معادية لها وتحتاج لتطويع الدول التي تحوطها لأنها تملك القوة العسكرية الهائلة وصناعة عسكرية وإلكترونية متطورة جداً وتغطية دولية وإعلامية لجميع أفعالها.
أما ضرب الحديقة الخلفية لإيران، فقد بدأت إسرائيل أولاً بقتل علماء إيرانيين وضباط. ومن ثم اتجهت لضرب حلفاء طهران العام 2006 في لبنان ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً. وهي هلّلت لوجود «داعش» و«القاعدة» في سورية لأن ذلك من شأنه إزالة خطر سورية عن إسرائيل، واحتفلت يوم سُحبت من سورية غالبية الأسلحة الكيماوية في عهد باراك أوباما.
وبدأت إسرائيل بضرب أهداف لإيران في سورية لأنها علمت أن الرئيس بشار الأسد – على الرغم من عدم موافقة إيران وحلفائها – لا يريد الخوض في حرب مع إسرائيل الآن لأن سلّم الأولويات هو لتحرير الأرض أولاً. وها هي اليوم تضرب في العراق، في حديقة إيران الخلفية. وهذا طبيعي جداً لأن الحشد الشعبي يحمل شعار العداء لإسرائيل ومحاربتها وضم جهوده إلى «حزب الله» اللبناني ودَعَمَ الأسد لاستعادة قوّته وتقوية «محور المقاومة».
وقد ضربت إسرائيل مخازن إستراتيجية في العراق يستطيع حلفاء إيران استخدامها في حال الحرب مع أميركا (أي بين إيران وأميركا). وفي المنطق الإسرائيلي، كما يقول أحد قادة «محور المقاومة»، أن «تضرب مخزناً أو اثنين أو مئة مخزن حتى ولو كان عدد المخازن ألفاً، فهذا يعني لإسرائيل أن هناك مئة مخزن أقلّ وصواريخ أقلّ لتُطلق في اتجاهها في حال الحرب».
وتعلم إسرائيل أنها لن تمنع «محور المقاومة» من بناء قدرته وكذلك تعرف أنها لن تستطيع وقف وصول شحنات السلاح إلى حلفاء إيران. كما تعلم طهران أن إسرائيل تحاول تقليص الدعم من دون وقْفه ولكنها – أي طهران – لا تتحمّس للرد لأنها تعمل بمبدأ أنها «لن تنجر إلى معركة بتوقيت إسرائيل». فخسارة عشرات الصواريخ ليست أهمّ من خسارة حلفاء ومقدراتهم في حال حربٍ تُفرض عليهم وهم ليسوا فقط غير مؤهلين لها (حال العراق) بل لا يريدونها في الوقت الراهن لأن الأولويات تختلف.
لقد قتلت إسرائيل الكثير من حلفاء إيران ومن الجنود الإيرانيين. إلا أن النتيجة كانت كالآتي: ربحت إيران في لبنان وسورية والعراق وأفغانستان، حلفاء لم تحلم بربْطهم في جبهة واحدة أبداً. فمَن هو الرابح والخاسر إستراتيجياً؟ ولكن يجب إضافة عامل آخر لنتنياهو وهو العامل الانتخابي الذي يجعله يريد إظهار نفسه كحامٍ لإسرائيل والمستوطنين وكصاحب «اليد الطولى» ضد أعداء إسرائيل.
مما لا شك فيه أن تقديرات إسرائيل العسكرية في درس ردّ الفعل المحتمل في سورية والعراق صحيحة، فهي تستخدم هامش المناورة لأنها تعلم ان حسابات الدول (العراق وسورية) تختلف عن حسابات التنظيمات (حزب الله) وأن أولويات إيران ليست الحرب على إسرائيل الآن.
إلا أن نتنياهو انتقل من ضرْب مخازن عسكرية عراقية إلى ضرب أهداف مثل قائدٍ في «الحشد الشعبي» على غرار ما حدث يوم الأحد في عكاشات، محافظة الأنبار، على الحدود مع سورية.
لقد دفع نتنياهو، السيد نصرالله للردّ. وتجلّى ذلك عندما قال زعيم «حزب الله» ان إسرائيل تعلم جيداً ما هي خطوط وقواعد عدم الاشتباك واعداً بالردّ على أي ضربة لقواته في سورية. وهذا ما يعلمه نتنياهو وبالتالي فهو قبِل هذا التحدي ليستعدّ لجولة جديدة في لبنان كما كان توقّع نصرالله (انظر عدد «الراي» بتاريخ 21 ابريل 2019 بعنوان «نصر الله: احتمالات الحرب مرتفعة هذا الصيف») بأن الصيف اللبناني سيكون حاراً، ويبدو أن نتنياهو مستعدّ لذلك وخصوصاً أنه يتمتع بدعم أميركي غير محدود.
ولكن هل تقبل أميركا بدفع الثمن؟ فوجود أميركا في سورية لا يشكل خطراً كبيراً عليها (الخطر دائماً موجود) لأنها تعمل في بيئة حاضنة غير معادية (كردية). أما في العراق فالأمور مختلفة تماماً. اذ خلف كل زاوية تستطيع مجموعات ترغب برؤية أميركا خارج العراق أن تبدأ حرب العصابات ضد القوات الأميركية التي تتواجد الآلاف منها على أرض بلاد الرافدين أو في كل معسكر تقدّم فيه القوات الأميركية التدريب.
وثمة من يقول إن هناك عناصر عدة جاهزة لقتْل أميركيين بسبب السياسة الإسرائيلية التي تفرض على العراقيين المنتمين إلى محور المقاومة الردّ إذا امتنعت دولتهم.
إن تدمير المستودعات في العراق واغتيال قادة «الحشد» سيكلّف أميركا علاقتها ببغداد، ما سيؤدي إلى انسحابها بالكامل. وبالتالي فقد أصبح ضرورياً على العراق تنويع مصادر مشترياته العسكرية لتشمل الصين وروسيا.