كتب محمد وهبة في جريدة “الأخبار”:
تنفّذ الشركات العاملة في مجال استيراد وتوزيع المتشقات النفطية إضرابًا الخميس احتجاجًا على شحّ الدولارات في السوق وانعكاس هذا الأمر على تجار المحروقات الذين يشترون البنزين والمازوت بالدولار، فيما هاتان السلعتان مسعّرتان من وزارة الطاقة بالليرة… الأزمة تزداد سوءاً مع القلق مما يروّج له من ضرائب وإجراءات موجعة تصيب الشرائح الفقيرة والمتوسطة
لا تزال أزمة شحّ الدولارات في السوق المحليّة تشكّل الهاجس الأكبر لدى المصارف والتجار. فالمصارف بدأت بإجراءات صامتة مع زبائنها وأبلغتهم بأنها ستعمد إلى توزيع السيولة المتوفرة لديها بالدولار على الزبائن، وأنه بات يتحتّم عليهم إبلاغها مسبقاً بحاجاتهم من دون أن يعني هذا الأمر أنها ستغطي كل الكميات اللازمة لهم «بل هي تحاول ألا تخسر زبائنها من خلال تنظيم إدارة سيولتها المحدودة بالدولار. بمعنى آخر، فإن المصارف تعمل في إطار إدارة الأزمة» يقول أحد المصرفيين.
هذه الأزمة ظهرت لدى أكثر من قطاع، مثل الصناعيين الذين يستوردون المواد الأولية، ومستوردي الدواء، ومستوردي الأغذية، إلا أنها بدأت تتفاقم لدى مستوردي البنزين والمازوت الذين يتنافسون في السوق على شراء أكثر من مليارين ونصف مليار دولار من الصرافين. وبحسب الرئيس السابق لجمعية مستوردي النفط، مارون شمّاس، فإن شحّ الدولارات كان متقطعاً في البدء، إلا أن الوتيرة بدأت تصبح أكثر ثباتاً رغم أن المشتقات النفطية «تعدّ سلعة أساسية وحيوية، وهي خاضعة للتسعير من وزارة الطاقة بالعملة المحلية، فيما يدفع المستوردون ثمن البضاعة المستوردة بالدولار الأميركي».
في السابق، كانت مبيعات البنزين والمازوت بالدولار تشكّل أكثر من نصف الكمية المبيعة في السوق. لكن مع بدء أزمة الدولارات، بدأت تنخفض النسبة إلى أقل من 20%، وهي أصبحت اليوم بحدود أدنى «كما أنه لم تكن هناك فروق في سعر الصرف، لذا لم يكن لدينا مشكلة» يقول أحد مستوردي المشتقات النفطية. ويشير إلى أن تجار المحروقات كانوا يحصلون على الدولارات من المصارف بشكل اعتيادي، غير أن هذه الأخيرة بدأت تقنن بيع الدولارات، ما دفعنا إلى شراء الكميات اللازمة من الصرافين. يومها عولجت المشكلة بشكل جزئي إلى أن بدأ شحّ الدولارات يزداد أكثر فأكثر وبات التجار يلجأون إلى الصرافين لشراء الدولار من دون أن يتمكنوا من الحصول على الكميات اللازمة لتغطية الاستيراد». واليوم أصبح الأمر أكثر تعقيداً: «نحن بحاجة إلى الدولارات لتسديد قيمة الاعتمادات المفتوحة لدى المصارف لتغطية كميات البنزين والمازوت المستوردة من الخارج. طلبنا من شركات التوزيع ومن أصحاب محطات البنزين تسديد الفواتير بالدولار، إلا أن هذا الضغط لم يعد يجدي نفعاً لكون الأزمة شاملة السوق كلّه وليست محصورة بقطاع واحد».
شماس يلفت إلى أن سعر البنزين والمازوت محدّد من قبل وزارة الطاقة بالعملة المحلية على أساس 1507.5 ليرات لكل دولار، لكن السعر السوقي لليرة مقابل الدولار تجاوز 1540 ليرة لكل دولار، ما يعني أن هناك «فرقاً في كل صفيحة تباع للمستهلك بقيمة 300 ليرة يتحمّلها التاجر». ينطلق شمّاس من هذا الأمر ليطالب بإيجاد حلّ لهذه المشكلة عبر إعادة تسعير الصفيحة على أساس السعر السوقي للدولار، أو من خلال تأمين الكميات اللازمة من الدولارات لمستوردي المشتقات النفطية عبر المصارف بالسعر المحدّد من قبل مصرف لبنان». اعتبارات هذا المطلب تستند إلى أن البنزين والمازوت «يعدّان سلعة حيوية وضرورية للمستهلك ولكل القطاعات الصناعية والتجارية والسياحية، وهذا هو السبب وراء تسعيرها من قبل وزارة الطاقة».
ويعقد اليوم اجتماع في وزارة الطاقة بحضور مستوردي المشتقات النفطية وأصحاب محطات البنزين لتدارس سبل المعالجة. يتوقع أن يطلب التجار معالجة الأمر على أساس عدم المسّ بأرباحهم في ضوء تسعير صفيحتي البنزين والمازوت من قبل الوزارة ضمن هامش ربح محدّد مسبقاً. لكنهم يدركون أن مفتاح الحلّ موجود لدى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي بات عليه أن يغطّي استيراد هذه السلعة، وإلا فإنهم مجبرون على التوقف عن الاستيراد، إلا أن الإضراب غداً «لا يعني التوقف عن تسليم البنزين والمازوت في السوق»، وفق شمّاس.
الخبراء يشيرون إلى أن السياسات النقدية الانكماشية التي ينفذها مصرف لبنان حالياً، تهدف أصلاً إلى التقليل من الاستيراد للتخفيف من الطلب على الدولار طالما أن جزءاً كبيراً من السلع المستهلكة محلياً مستوردة، ويدفع اللبنانيون ثمنها بالعملات الأجنبية، لذا فإن المصرف المركزي لن يتجاوب بشكل كامل مع مطالب تجار المشتقات النفطية. وسلامة كان قد التقى قبل أشهر وفداً من تجار المشتقات النفطية الذين طالبوه بإيجاد حلّ لهذه المشكلة، إلا أنه أبلغهم بأن تأمين الدولارات لتغطية الاستيراد يقع على عاتق المصارف… في المحصلة، بات واضحاً أن الضغوط في مواجهة أزمة شحّ الدولارات تنتقل من طرف إلى آخر بحسب توزّع القطاعات وهرميتها. مصرف لبنان يضغط على المصارف، وهذه الأخيرة تنقل الضغط إلى التجار والمستوردين، وبدورهم ينقلونها إلى الموزعين وبائعي المفرق، ثم إلى المستهلك، وكلهم «ينقّون» عند السياسيين. حلقة الضغوط لا أفق لها لمعالجة أزمة بنيوية ناتجة من كون لبنان يعتمد بشكل أساسي على التدفقات الرأسمالية من الخارج التي شحّت إلى حدودها الدنيا، وسط طلب على الدولارات في المنطقة. اضطر مصرف لبنان الى أن ينفذ هندسات ترفع أسعار الفائدة إلى أكثر من 17% لجذب الدولارات. آخر هذه الهندسات استقطب 2 مليار دولار بحسب ما أبلغ المصارف في اللقاء الشهري الأخير الذي عقد يوم الجمعة الماضي. لكن، في المقابل، سجّلت احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية ارتفاعاً بقيمة 700 مليون دولار، بحسب ما أبلغ مصرف لبنان وكالات التصنيف، ما يعني أن المبالغ التي خرجت من لبنان تبلغ نحو 1.3 مليار دولار في الفترة نفسها.
هذا الوضع بشكل عام، انعكس سلباً على الاقتصاد. فالفوائد المرتفعة منعت المصارف من مواصلة عملية الإقراض نظراً الى عدم جدوى الاستدانة بكلفة باهظة، وبات شحّ الدولارات الهاجس الأساسي للشركات، وتراجع الاستهلاك العام والخاص، ما دفع الشركات إلى تنفيذ موجات من صرف العمال، ما رفع معدلات البطالة بشكل إضافي… هذه هي السياسات النقدية والاقتصادية المعتمدة في مواجهة الأزمة. مظاهر الأزمة قد تزداد سوءاً في الأيام المقبلة، وهناك من بدأ يروّج للتضحيات والإجراءات الموجعة، ما يمكن تفسيره بأنه عودة الى الطروحات التي تشير إلى ضرورة ضرب القطاع العام للنجاة من الكارثة، وأن التضحيات يجب أن تكون من خلال رفع الضرائب كما يحدّدها صندوق النقد الدولي، أي رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 15% وفرض ضريبة على استهلاك صفيحة البنزين بقيمة 5000 ليرة وغيرها من الإجراءات التي تمس معيشة الشرائح الفقيرة والمتوسطة.