Site icon IMLebanon

التصالح مع الماضي والنسيان

كتبت ساسيليا دومط في “الجمهورية”:

 

«كل ما نسيتو وارتحت، بيرجع بيظهر بحياتي من جديد، وبيرجعلي كل الماضي اللي عشتو معو»، تقول لورا عن حبيبها السابق الذي تزوج من فتاة أخرى، قبل أن ينهي علاقته بها.
أحيانا نحاول تذكر إسم شخص معيّن، لكن دون جدوى، وأحياناً أخرى نفشل في استحضار ذكرى أو تاريخ، ما يُشعرنا بالإحراج والخوف من تزايد هذه الحالة وتكرارها.

أما موضوع نسيان التلامذة لما درسوه سابقاً في فترة الإمتحانات فمختلف، إذ غالباً ما يتذكرون من جديد ما غاب عنهم في لحظات القلق والخوف والتوتر. ويعود سبب ذلك إلى سيطرة الإنفعالات والمشاعر عليهم. وقد يتسبّب بذلك عدم الحفظ جيداً بسبب البيئة التي يسيطر عليها الضجيج والفوضى، كما قد يكون عدم التنظيم وإعطاء الوقت الكافي للفهم والحفظ سبباً رئيساً للنسيان.

ظنّ جاد بأنه لن يتمكّن من إتقان اللغة الإنكليزية، التي يحاول جاهداً التعمق بها بعد إنهائه دراسته الجامعية باللغة الفرنسية، ويقول: «تأتي الكلمات إلى رأسي باللغة الفرنسية بسرعة كبيرة، وأنا أحاول جاهداً ترجمتها إلى الإنكليزية»… إلى أن علم أنّ المعلومات السابقة قد تسيطر على الجديدة في الذاكرة لفترة، إلّا أنه سوف يحفظ بدون شك المعلومات الحديثة، والعكس صحيح في بعض الأحيان.

يؤثر سوء التغذية وعدم انتظام ساعات النوم سلباً على ذاكرتنا، كما أنه لا بد من ذكر العامل الوراثي في هذا السياق. وغالباً ما يؤدي التقدّم في العمر تدريجاً إلى زيادة الصلابة في شرايين الدماغ وضعف تدفّق الدم فيها، وبالتالي إلى ضعف القدرة على التذكر والحفظ، طبعاً مع عدم إغفال الأسباب المرضية المسبّبة للنسيان، كالتعرض لتلف في الدماغ، والجروح والأورام والحوادث.

قد ينتج النسيان وعدم القدرة على التركيز عن تناول الأدوية المهدئة والمسكنة للوجع، والمواد المخدّرة والكحول والتدخين، ولا تقلّ الأسباب النفسية أهمية، كالإكتئاب والإحباط، كما التوتر والقلق والعيش في ظروف ينعدم فيها الأمن والإستقرار.

نظن أننا ننسى أحزاننا وآلامنا أحياناً كثيرة، إلّا أننا نتفاجأ بظهورها من جديد في ظرف أو وضع معيّن. وفي هذه الحال، نكون قد تناسينا ما مررنا به لشدة الوجع المرتبط بذلك، فنكبت مشاعرنا، ويساعدنا بذلك عقلنا الباطني في حماية أنفسنا بهدف تخفيف المعاناة والألم، فنعتقد بأننا نسينا.

نظن أحياناً أننا نسينا شخصاً تسبّب لنا بجرح عاطفي عميق، ونتفاجأ بأننا نتذكره كلما خاب أملنا أو أُصبنا بصدمة جديدة، ولو كانت بسيطة، والسبب في ذلك يعود إلى أننا لم نشفَ من الداخل، ولا بدّ من المصارحة والمصالحة مع الأحداث وتقبلها للبدء من جديد.

كما أننا غالباً ما نعاني من الإحباط والميل إلى العزلة بسبب خطأ قمنا به وآلمنا شخصاً آخر عن قصد أو عن غير قصد، وهنا لا بد من الإعتراف بالخطأ والإعتذار، وطلب مسامحة الآخر، للتوقف عن جلد الذات، والإنطلاق إلى تجارب جديدة. نذكر ذلك لأننا غالباً ما نعتقد بأننا تجاوزنا أمراً ونسيناه، دون الوصول إلى هذه الحالة فعلياً.

أما نسيان مَن خسرناهم إلى الأبد، بسبب الموت فأمر صعب ومستحيل أحياناً، إذ نحن نحتفظ بهم في ذاكرتنا والمخيّلة لكن بشكل إيجابي، ولا بد لبلوغ هذه المرحلة من القبول في عيش مراحل الحداد، فنرفض الموت في البداية، ونثور ونغضب، من ثم نحزن ونعترف بالواقع المرير، وهذا لا بد منه في هذه الظروف. إلّا أننا لو تجاوزنا مدة الأسبوعين دون أن نتمكّن من ممارسة حياتنا اليومية، كتناول الطعام والنوم والإهتمام بنظافتنا الشخصية، فهذا يستدعي استشارة الأشخاص المختصين. يشعر فيليب بالخجل لأنه عاود الذهاب إلى العمل بعد وفاة إبنه الشاب بحادث سير، منذ شهرين، بينما لا زالت زوجته في شبه غيبوبة لعدم تقبّلها الأمر الواقع؛ بعد الحزن، لا بد من تقبّل الأمر الواقع ومعاودة الحياة اليومية بشكل شبه طبيعي، وإلّا يحتاج مَن فقد شخصاً عزيزاً إلى العلاج والمتابعة، وليس تخطي فيليب للصدمة علامة قلة حب ووفاء لإبنه أو نسيانه، وإنما مروره بمراحل الحداد الطبيعية. يقال إنّ النسيان نعمة، وهذا صحيح، لكننا بحاجة لفهم التجارب التي تسبّب لنا الألم النفسي، والتصالح معها وتقبّل الواقع كي نتمكن من الحصول على هذه النعمة.