كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
بمعزل عن الدقائق المئة التي استغرقتها المواجهة في جنوب لبنان بين إسرائيل و»حزب الله» في أعقاب عملية «افيفيم»، فقد ثبت أنّ لها سقفاً لا يمكن تجاوزه بسهولة. فللطرفين ظروفهما المحكومة بالكثير من العوامل التي تجعلها محدودة، والى ذلك فما الذي يبرّر ردود الفعل الدولية، ولا سيما الموقف الفرنسي الذي قدّم نموذجاً يطرح الكثير من الأسئلة عن مغازيه. وما الذي يعنيه ما حصل؟
منذ اللحظة الأولى التي أعلنت العملية العسكرية التي نفّذتها مجموعة من «حزب الله» في اتجاه طريق ثكنة «افيفيم» قبالة الحدود اللبنانية الجنوبية، رداً على عمليتي دمشق والضاحية الجنوبية اللتين استهدفتا «حزب الله»، إستشعر اللبنانيون اهتماماً دولياً غير مسبوق. فإلى الحراك الذي قاده اهل الحكم في لبنان ظهر انّ هناك عواصم عربية وغربية تحركت تلقائياً من أجل لجم التوتر.
ومردّ ذلك الى وقوع العملية في الساعات التي تلت خطاب الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله الذي جدّد التذكير بقوله إنّ الرد على عمليتي دمشق والضاحية «سيكون مفتوحاً ومن لبنان…»، و»ليس شرطاً أن يكون من «مزارع شبعا…»، في إشارة واضحة الى رد سابق على عملية القنيطرة التي أودت بحياة جهاد عماد مغنية في 18 كانون الثاني 2015، ومعه مسؤولون لبنانيون وإيرانيون، وقد ردّ يومها في منطقة المزارع، لكنه استطرد فقال إنّ ذلك «يخضع لتقييم دقيق للغاية». وهو ما جرى تفسيره بأنه «لن يستجرّ الحرب»، منعاً لتكرار عبارة «لو كنت اعلم» التي تزامنت وحرب تموز 2006 التي تسبّبت بها عملية مشابهة.
وما عزّز الاعتقاد أنّ الحرب مؤجّلة، وانّ ما حصل «مسقوف»، فقد طالب نصرالله قبل العملية العسكرية بـ «ضمانات لحماية لبنان من اي اعتداء ساعة يشاؤون وبالطريقة التي يريدون…»، بعدما فنّد الغاية من استخدام «الدرون» في عمليات تفجير نظيفة بزرع عبوات في مكان من لبنان وتفجيرها بلا أدلة. دون ان يحدّد الهدف الذي انتهت اليه، لا رفضاً ولا قبولاً، بما ادّعته اسرائيل بما انجزته عمليتا الضاحية ودمشق من تعطيل لبرامج الصواريخ الذكية والطائرات المسيّرة، رابطة بين ما جرى في دمشق ولبنان وكأنّ الهدف واحد. وكل ذلك من اجل مخاطبة العالم بما يريده تثبيتاً للتوجّهات من اجل فرض عقوبات على «حزب الله» بشقيه السياسي والعسكري واعتباره منظمة ارهابية.
وما زاد الطين بلة، ما طرأ من مخاوف في اللحظات الأولى لإندلاع المواجهة قرب الحدود حيث تسارعت المعلومات عن عدد من القتلى والجرحى، كما قال بيان «حزب الله»، وأخرى قالت بمقتل قائد الجبهة الشمالية الإسرائيلية تزامناً مع إسراع بعض المواقع الإسرائيلية الى رسم السيناريوهات المتوقعة من ردّ «حزب الله» وتوزيع صور عمليات إخلاء الجرحى بالطائرات المروحية من موقع الحادث الى إحدى مستشفيات صفد ورامبام. عندها كان منطقياً أن تتّجه الرؤوس وتتجدّد السيناريوهات العائدة الى حرب تموز وربما اصعب منها.
وبمعزل عن كل هذه الوقائع، ففي الجانب الإسرائيلي، كما في الجانب اللبناني، سارع المراقبون والمحللون الى إعطاء عملية الحزب اكثر ممّا تستحق، سواء كان ما جرى في أعقابها خدعة أم حقيقة. وسارعت وسائل الإعلام الى التشكيك في أنّ الردّ سيكون قاسياً، وبالغ كبار محلليها باستشعار عمليات اكبر وأوسع ممّا حصل. وهو ما زاد حدّة الإحتقان الذي تبخّر بعد اقل من ساعتين، ففكّ الإستنفار ودُعي اهالي مستوطنات الشمال الى مزاولة اعمالهم كالمعتاد قبل أن تسوى الملاجئ لتستقبل ضيوفها الإسرائيليين.
ما الذي يعينه كل ذلك؟ يقول الخبراء المستندون الى سلسلة من التقارير الديبلوماسية الواردة من عواصم القرار بعد اكثر من 48 ساعة على العملية أنّ الجوَّ الدولي كان ينتظر ردّ فعل «حزب الله» على ما جرى ليكون بمقدوره حصره وتطويقه قبل أن يتطوّر وتنزلق الأمور الى حيث لا يريده أحد. ففي واشنطن ورغم عطلة الأحد تجاوب المسؤولون الأميركيون مع الجانبين اللبناني والإسرائيلي اللذين قصدا وزير الخارجية مايك بومبيو ومساعده لشؤون الشرق الأدنى دايفيد شينكر الذي يستعدّ لزيارة المنطقة ومواصلة ما بناه أسلافه في مشاريع مفاوضات الترسيم بعد ايام قليلة على التجديد لقوات «اليونفيل» دون ايّ تعديل في قواعد سلوكها ومهامها، ولا سيما لجهة رعاية هذه المفاوضات رغم اطلاق يد قيادتها لإستقبال المفاوضين و»المسهّلين» الأميركيين معاً.
والى ما شهدته واشنطن، لا يمكن تجاهل الإهتمام الروسي بما جرى فكان وزير الخارجية سيرغي لافروف على الخط مع بيروت وتل ابيب في مهمة عاجلة لتطويق ما حصل. فالتفاهم الروسي – الأميركي – الإسرائيلي أرسى في لقاء مسؤولي أجهزة الأمن القومي في القدس قبل اشهر قليلة، آلية للعمل تحمي لبنان وتمنعه من الإنزلاق نحو المزيد من المخاطر. فالهدوء فيه مطلوب بإلحاح من كل الأطراف المتصارعة على الساحات السورية والعراقية واليمنية وفي خليج العرب.
وكان لافتاً الإهتمام الفرنسي بما جرى قبل ساعات على وصول المكلف بملف مراقبة تنفيذ مقررات «سيدر 1» فيليب دوكان لبيروت. فقد اظهرت ديبلوماسيتها حراكاً يتفوّق على باقي زملائها. وهو ما ردّه مسؤولون كبار الى انّ فرنسا اليوم ترعى اكبر الخطوات في المفاوضات الأميركية – الإيرانية غير المباشرة. فالعالم لم ينسَ الترتيبات الخاصة التي جاءت بوزير الخارجية الإيراني محمود ظريف الى قمة الدول السبع الكبرى للقاء الرئيس ايمانويل ماكرون الذي يقود هذه العملية، مفوَّضاً من نظيره الأميركي والمجموعة الدولية. وليس من مصلحته ولا من مصلحة الطرفين المتفاوضين خربطة الوضع في لبنان، فكان ما كان من تطويق سريع لما جرى.
وفي نيّة الفرنسيين كما يعترف العارفون انّ باريس لا تسعى الى تسهيل المفاوضات الأميركية – الإيرانية كرمى لأعين الطرفين. فمصالح القارة الاوروبية في الميزان الدقيق للعقوبات الأميركية على طهران وهي من دفعت الثمن غالياً جراءها. ولذلك بادر ماكرون الى توسيع نطاق اتصالاته خارج لبنان فتحدث الى كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو والرئيس الإيراني حسن روحاني، كما قال بيان وزارة الخارجية الفرنسية، تعبيراً عن قلقه ممّا حصل، طالباً وقفاً للنار.
على هذه القواعد بنيت الخطوط الحمر وسقوف العملية التي شهدتها الحدود الجنوبية، وهي برأي العارفين، وإن تكرّرت قريباً، فلن تتجاوز سقفها بتأكيدات ديبلوماسية إقليمية ودولية مضمونة.