كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
ظهر تحوُّل مثير للانتباه في الخطاب السياسي الذي اعتمده الدكتور سمير جعجع في الأسابيع الأخيرة. عادة لا يستخدم المقولات والشعارات الساخرة («قوم بوس تيريز» و»الأرانب» نموذجاً). حتى عندما كان قائداً لميليشيا في زمن الحرب لم يستعمل عبارات التجريح أو التعيير أو السخرية ضد خصومه. هم يعرفون ذلك كما الأصدقاء. فما الذي دفع به إلى هذه الدرجة من الاستفزاز؟
لم يكن مستهجَناً أن ينفرد جعجع بعدم إلقاء التحية على الرئيس ميشال عون لحظة دخوله قاعة طاولة الحوار. فالرسائل التي وجَّهها قبل أيام لم تستهدف الوزير جبران باسيل وحده، كما جرت العادة، بل طاولت العهد والرئيس بشكل واضح.
هذا يعني أنّ جعجع قرَّر أن يخلع القفازات في التعامل مع عون، بعدما وصل إلى طريق مسدود في محاولاته لدفع رئيس الجمهورية إلى الاضطلاع بدور في «ردِّ هجمات» باسيل عنه.
منذ سنتين، يحاول جعجع أن يلجأ إلى عون، باعتباره «مرجع التيار» الحقيقي أو «المرشد». ويذكِّره بـ «تفاهم معراب» وبالدور الذي اضطلعت به «القوات» لإيصاله إلى الرئاسة. ومن هذا الرصيد، طلب جعجع من عون مراراً أن «يردَّ باسيل» عنه، لكن الجواب يأتي دائماً: «إذهب وتفاهم مع باسيل. أنا اليوم رئيس للجمهورية وأمور «التيار» هو مَن يتولّاها. لا تدخّلوني في مشاكلكم الحزبية». هذا ما سمّاه جعجع «قوم بوس تيريز».
طبعاً، لم يكن جعجع مغشوشاً منذ البداية. هو يعرف أنّ عون منحاز إلى باسيل، فهذا طبيعي بحكم الترابط العائلي والسياسي والحزبي. لكنه بقي يأمل في أنّ عون لن يذهب بعيداً في دعم باسيل في هذه المعركة المسيحية تحديداً، المعركة مع «القوات»، وأنه ربما يفضل الحفاظ على صورة «بيّ الكلّ».
ولكن، في النهاية، إستنتج جعجع أنّ التغطية السياسية التي يتمتع بها باسيل تأتيه، خصوصاً من موقع رئاسة الجمهورية. وبها خاض معاركه أيضاً مع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري والنائبين السابقين وليد جنبلاط وسليمان فرنجية والآخرين. والرئيس عون هو الذي يحمي باسيل دائماً لئلّا يصاب بالهزيمة في أيِّ مواجهة.
ويقول بعض كوادر «القوات»: اضطررنا إلى كشف اللعبة، فلا تبقى مستورة، على الأقل هذا يتيح للرأي العام أن يعرف الحقائق، فلا يلومنا. وفي الموازاة، نحن نشرح للناس أين هي مكامن الفساد المستشري في هذا العهد، لئلّا يبقوا مخدوعين بالشعارات. ولأوّل مرة، بدأ الكوادر بتسمية المآخذ على العهد بأسمائها، بعد تردُّد وتحفُّظ طويلين. ولكن، هناك سؤال في العديد من الأوساط: لماذا تُشَنُّ الآن هذه الحملة المتجدّدة على «القوات»، ولماذا الإصرار الآن على محاولة عزلها وإقصائها عن السلطة والحياة السياسية؟
يعتقد المتابعون أنّ قوى ومصالح مختلفة، محلية وخارجية تتقاطع على استهداف «القوات». فالبُعد المحلي يتعلق بالتنافس الشديد بين «التيار» و»القوات» على عنوان «مَن الأقوى مسيحياً؟»، وهو ليس جديداً. والجميع يعرفون أنّ بعض القوى أراد خلال تحضير قانون الانتخاب الساري المفعول أن يضعف «القوات» إلى الحدّ الأقصى، لكنّ ظروف المعركة أدّت إلى تحقيق نتائج معاكسة.
وأما البُعد الخارجي فيرتبط مباشرة بطبيعة الصراع بين المحاور الإقليمية. وثمّة حديث يدور في بعض الأوساط عن «كلمة سرّ» إيرانية لإحكام القبضة على القرار في لبنان، لئلّا تستخدمه الولايات المتحدة ورقة في المواجهة الدائرة بين البلدين. وضمن هذا السياق، المطلوب هو استيعاب القوى الثلاث: الحريري- جنبلاط- «القوات».
والحملة الأخيرة على رئيس التقدمي تندرج ضمن هذا الهدف، وكذلك الحملة على «القوات». وأما الحريري فيجري استيعابه بوسائل ترغيب وترهيب. ويبدو أنها ناجعة. والدليل أنه ترك «القوات» وينسّق مع «التيار» في التعيينات وسائر الخطوات.
لكنّ حملة «التيار» على «القوات» تتّخذ بُعداً آخر لأنها ترتدي طابع المنافسة داخل الصف المسيحي. إنّ مشكلة «التيار» مع الخصم الدرزي أو السنّي هي مشكلة «خارج البيت» الطائفي، أما مشكلته مع «القوات» فهي داخل البيت حيث يعمل كل طرف على قطع الطريق على الآخر، خصوصاً في ظلّ التحضير المستميت لاستحقاقين: الانتخابات النيابية والرئاسية، في نهاية العهد.
أحد الخبثاء يقول: بين جعجع وباسيل «حرب إلغاء»، ولكن باردة، وإلى حدّ ما، هي تذكِّر بحرب الإلغاء الملتهبة التي دارت ذات يوم بين جعجع وعون. التاريخ لدى الموارنة يعيد نفسه بأخطائه وخطاياه. ويقول خبيث آخر: الأحرى أنها تصفيات آخر الموسم.