IMLebanon

هل تجاوزنا الحرب؟

كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:

تجاوز لبنان قطوع الحرب، ولو إلى حين. فالرد على اعتداء الضاحية، من خلال عملية «حزب الله» في أفيفيم، وبالشكل الدقيق الذي نُفّذت فيه، سحبَ فتيل مواجهة شاملة لا أحد يريدها.

دقة العملية ليست في التنفيذ، بقدر ما هي في التكتيك، الذي جعل الكل رابحاً في تجنّب تدحرج التوتر عبر الحدود اللبنانية – الفلسطينية إلى حرب.
كَرّس «حزب الله» معادلة الردع، من دون أن يخاطر بالمكتسبات التي حققتها حرب تموز عام 2006، وفي الوقت ذاته، جَنّب البلد سيناريوهات مفتوحة على احتمالات أقلّها كارثي.

تنفّس الكل الصعداء، مرحلياً، بعد ظهر 1 أيلول، وتتقاطع القراءات السياسية والديبلوماسية عند ما يلي:

أولاً، إستطاع «حزب الله» أن يوقف إسرائيل على «رجل ونصف»، بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، بعدما بات قادراً على تحديد الخطوط الحمر بنفسه، ربما للمرة الأولى منذ 13 عاماً على معادلة «تل أبيب مقابل الضاحية»، وقد أضاف إليها خطّين أحمرين جديدين، هما: «الرد من لبنان وفي لبنان» على استهداف أيّ من عناصره، حتى وإن كان ذلك في سوريا. ومنع أيّ تغيير في قواعد الاشتباك القائمة، على غرار ما حاولت إسرائيل القيام به، في موقعة الطائرتين المسيّرتين في الضاحية الجنوبية.

صحيح أنّ رد «حزب الله» اقتصر على الشق الأول، إلّا أنّ قواعد الاشتباك في ما يتصل بالشق الثاني لن تتغيّر، خصوصاً أن مجرّد التهديد بإسقاط طائرات مسيّرة، حتى وإن لم يحدث بعد، سيشكّل بالنسبة إلى الإسرائيليين عامل ردع إضافي، يعيد قواعد الاشتباك المُتّبعة جوّاً إلى ما قبل موقعة الضاحية الجنوبية.

ثانياً، خرج بنيامين نتنياهو بأقل الأضرار، أقلّه إلى حين تمرير استحقاق انتخابات الكنيست في 17 أيلول. وتمكّن رئيس الوزراء الاسرائيلي، الطامِح إلى البقاء على رأس السلطة في إسرائيل، من استغلال الهجمات الإسرائيلية بين سوريا والعراق، لكي يقنع جمهوره بأنّه الوحيد القادر على «حمايتهم». وفي الوقت ذاته، لم يتورّط في مواجهة عسكرية في لبنان، الذي تحوّل منذ الثمانينات إلى «لعنة» على كل رؤساء الوزراء الإسرائيليين الذين حاولوا بناء انتصاراتهم السياسية في الداخل بالعدوان على الأراضي اللبنانية، بحيثيات ومُسمّيات مختلفة.

ثالثاً، بات بإمكان لبنان الرسمي أن يحتوي التداعيات السياسية والاقتصادية للتصعيد الشامل، الذي كان حتى ظهر 1 أيلول احتمالاً قائماً. وبالتالي، باتت هناك فرصة إضافية – وإن كانت الأخيرة – لاحتواء الأزمات الداخلية، ولاسيما في الشق الاقتصادي، خصوصاً أنّ الدوائر المالية والمصرفية تدرك اليوم أنّ كل الهندسات المالية التي ما زالت تَقي البلاد من السقوط الحر في جحيم الإفلاس، متوقفة على عنصر وحيد، وهو عدم حدوث «تطوّر خطير» يهزّ الاستقرار. والمقصود بذلك، إمّا فتنة داخلية، كتلك التي كان يمكن أن يذهب إليها لبنان بعد موقعة قبرشمون، وإمّا حرب إسرائيلية، كتلك التي كان يمكن أن تحدث لو أنّ رد «حزب الله» انتهى بخسائر كبيرة لا يتحمّلها الاسرائيليون.

رابعاً، بات بإمكان المجتمع الدولي التفرّغ لقضاياه الكبرى، وفي صلبها، إقليمياً، الملف النووي الإيراني، في ظل الحراك الدائر حالياً، عبر البوابة الفرنسية، لاحتواء التصعيد، الذي أفرزه قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب الأحادي الجانب من التسوية النووية في فيينا، والذي جعلَ سيناريوهات الحرب مع الجمهورية الإسلامية أكثر احتمالية من أيّ وقت مضى.

صحيح أنّ لبنان لم يعد على رأس أولويات المجتمع الدولي، إلا أنّ الدول المعنية بالملفات الشرق أوسطية لا تريد، بأيّ حال من الأحوال، أن تواجه صداعاً جديداً من البوابة اللبنانية، لو أنّ الحرب وقعت حتماً.

يَشي بذلك ما قاله مصدران شرقي وغربي، منذ اللحظة الأولى لعملية «أفيفيم» أنّ «كل شيء انتهى بسلام»، وما تَردّد في دوائر دبلوماسية بأنّ العملية كانت محسوبة بدقة، بما يحقق هدف عودة الأمور إلى ما قبل اعتداءَي الضاحية الجنوبية وعقربا.

يشبّه مصدر دبلوماسي ما جرى على الجبهة اللبنانية، بما جرى تماماً قبل أسابيع على الجبهة الإيرانية، حين كانت واشنطن وإيران على شفير مواجهة شاملة، سرعان ما تراجَعتا عنها في اللحظات الأخيرة، ليخلص إلى أنّ الحال يبدو أنها ستستمر على هذا النهج، في كل الملفات الحساسة، إلى حين صدور نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة بعد عام ونصف، من غير أن يكون قادراً على التوقّع ما إذا كانت «الجرّة» ستسلم في كل مرّة!

أيّاً تكن الحال، فإنّ تجاوز لبنان «قطوع» التصعيد والحرب مع إسرائيل قد لا يعني، في أيّ حال من الأحوال، أنه سينجو من «القطوع» الأهَم، وهو القطوع الاقتصادي الذي يضعه في عين العاصفة.

وعلى ما يقول الخبراء، انّ احتواء سيناريو الحرب قد لا ينسحب على احتواء التداعيات الكارثية لإدارة الأزمات السياسية والاقتصادية من جانب الطبقة السياسية الحاكمة، التي التأمَت بالأمس، بكل تلاوينها، للبحث في حلول عن أزمة، هي أوجَدتها، وتحاول اليوم إلقاء تَبعات الخروج منها على كاهل الفئات الشعبية!

ما جرى في القصر الجمهوري بالأمس، وبرغم عنوانه الكبير، قد لا يعدو مجرّد مسرحية تشكّل فصلا من مسرحيات سابقة تحت العنوان نفسه، من دون ان تصل الى النتيجة المرجوّة، إذا بقيت عقلية المعالجة على النحو الفارغ الذي كانت عليه في ما مضى وشكّلت عاملاً اضافياً لتفاقم الأزمة، وإرهاق الخزينة وإحاطة الاقتصاد بشكل عام بهالة سوداء تَستبطِن نَعياً للبلد من البوابة الاقتصادية.

من هنا، منحت السلطة الحاكمة نفسها فرصة لإخراج البلد من أزمة بنيوية، وينبغي هنا لَحظ انّ إعلان حالة طوارئ اقتصادية، ينبغي ان يكون هدفها الوحيد والاساس «إنقاذ الاقتصاد» عبر خريطة طريق واضحة وجدية، يمكن ان تكون البنود التي اقتطفَت من الورقة الاقتصادية مُرتَكزها. ولكن ما يخشى منه، ربطاً بالتجارب السابقة، أن يأتي من يَحرف حالة الطوارىء الاقتصادية هذه عن هذا الانقاذ، ويحوّلها الى مجرد «بروباغندا فارغة»، عبر الذهاب الى أقصر الطرق واستسهال تمرير إجراءات تقشفية او ما سُمّيت «خطوات موجِعة» تطال المواطن بدلاً من أن تطال ديناصورات المال والمحميات السياسية، والذين لهم جمهوريتهم الخاصة، أي جمهورية الفساد.

إذاً، هناك فرصة 6 أشهر لتنفيذ «اتفاق بعبدا» الاقتصادي. ولكن ثمة سؤال يتطلّب جواباً سريعاً: وردت في النقاط الإصلاحية التي تضمّنتها الورقة الاقتصادية توصية بـ»استعادة أموال الدولة المنهوبة»! والسؤال كيف؟ ومن أين؟ ومن هم اللصوص؟ وهل ثمة من يجرؤ على الاقتراب من مغاراتهم؟

هناك من يقول إنّ لقاء بعبدا حَدّد المسار الانقاذي، ولكن هناك في المقابل من يُشكِّك ويقول ايضاً انّ النفق الاقتصادي مظلم ومساره منحدر نحو القاع، وباتَ يتطلّب معجزة لن تتحقق إلّا بأثمان سياسية كبرى لم يقدّمها لقاء بعبدا.