كتب د. محمد علي ضناوي في صحيفة “اللواء”:
ما طرحه السيد رئيس الجمهورية ميشال عون، بمناسبة (ما قرره) من احتفالات على امتداد عام كامل، بذكرى مئوية لبنان الأولى أمرٌ خطير،قد يصل إلى حد الإرباك أو الافتراء على التاريخ أكان ذلك عن سابق تصور وتصميم أو عن جهل غير مبرور ولا مبرر.
ــ ليس صحيحاً أيها السيد الرئيس،ما ذُكِر عن لسانك بالصوت والصورة، بمناسبة الخطاب الرئاسي في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس لبنان. أقلُّ ما نقول في ذلك:من العيب المطلق أن تبدأ سنةُ الاحتفالات بنبشٍ خاطئ وكاذب للتاريخ، لا يفهمُ منه، إلا محاولة مكشوفة،لإدخال البلاد في جدل لا تُحمد عقباه، قد يؤدي إلى نكء الجراح التي ما كادت تندمل،حتى يأتي من ينكؤها،سواء عن جهل أو عن سابق تصور وتصميم.
كما أن الرئيس شنّ حرباً إعلامية على دولة بني عثمان والتي تمثلها تركيا اليوم. في حين أن من واجب الرئيس أن يحرص على وحدة البلاد ومواطنيها، ويبتعد عن كل ما يعرضها إلى الاختلاف والتصادم،ويحرص على حفظ علاقة لبنان بالدولة التركية!! فكيف اذا ما تعمّد الخطاب التكاذب على التاريخ؟الأمر الذي نتج عنه إساءات كبيرة، ولو بقيت حتى الآن على المستوى الفكري أو التاريخي فضلاً عما اعتبرته (تركيا اليوم) إساءات إلى تاريخها وحضارتها!!.
ــ ليس صحيحاً،أيها السيد الرئيس،أنّ المحافظات الأربع اليوم (الجنوب،الشمال،بيروت والبقاع) انضمت إلى الجبل فشكلت لبنان الكبير. بل الصحيحُ أنّ الجبل َوبعض البقاع كانا جزءاً من ولايات صيدا أو طرابلس أو بيروت. أما بعض البقاع الآخر فكان يتبع دمشق أو طرابلس. علماً أنّ الجبل وأمراءه كانوا دوماً يخضعون إلى والي صيدا أو بيروت أو دمشق أو عكا. وفي قسم الجبل الشمالي خضع إلى ولاية طرابلس،التي امتدت في بعض أزمنتها، إلى اللاذقية شمالاً وجونية جنوباً وبعلبك شرقاً.
لا بأس أن يذكر السيد الرئيس أنّ قبول أكثر مواطني تلك (المناطق) بعد (إجراءات سايكس ــ بيكو في بعثرة أراضي السلطنة وبخاصة في المنطقة العربية وتقسيمها في عملية طرح وجمع عجيبة وغريبة)وبها تشكل لبنان الحالي دولة مستقلة عن سوريا العربية وفلسطين،وهو أمر لم يكن سهلاً أو مرحباً به. وشكَّل غصةً كبيرةً سكَّنَتْها ظروفُ المنطقة، وبخاصةٍ سلب فلسطين والتوليد القسري (لإسرائيل) وما رافقه ولازمه من أحداث وويلات جعلت العالم العربي ولبنان خاصة، يعيش في دوامة حروب وخلافات وانقلابات.
ـــ أما عن المرحلة العثمانية أيها الرئيس على مساحة ما عُرف بلبنان الكبير،فنقول باختصار:إن ما يُسمى «بلبنان اليوم» كان أجزاءً في ولايات «بلاد الشام» التي تضم أيضاً فلسطين (السليبة) وذاك واضح ومفهوم من إعلان الاحتفال بمرور المئوية الأولى لولادته «القيصرية» كما سوريا والأردن. أي أنّ لبنان لم يكن بلداً واحداً. ومن أعلنه دولةً هو الجنرال غورو عام 1919. وكان(الجنرال) في ذلك منفذَ الجزء من خطة تقسيم بلاد الشام وسائر بلدان الدولة العثمانية. تبعاً لاتفاق سايكس ـــ بيكو المشؤوم،على توزيع الأراضي بين «الحلفاء» تمهيداً لخلق الكيان الإسرائيلي في فلسطين السليبة وضرب وحدة بلاد الشام وما استجد من أحداث معقدة وصعبة وما قد يستجدلا قدر الله!!.
لا نقول أبداً إنّ حكم العثمانيين كان بريئاً من أخطاء ومثالبَ، لا بل في بعض الأحيان خطايا ليس على مناطق ما عرف «بلبنان اليوم» فحسب، بل في كل مناطقه حتى في تركيا نفسها. وهذا ليس من طبيعة حياة الدول التي تهرم فحسب، بل بفضل المؤامرات التي حيكت لها بغيةَ تقسيمها وفرض الاستعمار على بلادها، تمهيداً لخلق (إسرائيل) فكما هو معلوم رفض السلطان عبد الحميد الثاني عروض منح اليهود قطعة من فلسطين،فأدخلوا أراضي الدولة العثمانية التي خسرت في الحرب العالمية الأولى مع شريكتها المانيا،وأخضعوها إلى التقاسم والتقسيم ومنحوا «فلسطين» لليهود لإقامة وطن لهم وهم اليوم يسعون إلى توليد (إسرائيل الكبرى) لا قدَّرَ الله!!.
لكنّ هذا كله،يجب أن لا يُنسينا فضائل السلطنة العثمانية،وما أكثرها، ولا حضارتها اللافتة وإجراءاتها التنويرية، ولا معالمها السامقة التي لا تزال شامخةً في مختلف أرجاء «سلطنتها»، ومنها ما بات يُعرف اليوم بــ (لبنان). وهذا كله إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. وهي الحرب التي شهدت الفواجع والمآسي والويلات في أرجاء الأرض وليس فقط (هنا). وإلا نكون جهلةً وراغبين في إثارة الجدل والخلاف، والقيل والقال، وتعمّد الإساءة إلى التاريخ، وارتكاب جرائم التحريف والتزوير بحق الدولة العثمانية التي آل أمرها إلى الجمهورية التركية التي أبدت رسمياً الاحتجاج على الخطاب الرئاسي. علماً ان التحريف «الرسمي» للتاريخ لا يوجد إلا وفق خطة مدروسة مكشوفة الأبعاد والأهداف. ومنها تعمَّد كتبةُ الخطاب الرئاسي تسريبهالإيجاد هوة بين اللبنانيين عبر نشر الأباطيل على لسان رئيس البلاد (مع تسجيل الأسف الشديد)، تمهيداً لجعل الاحتفال بالمئوية الأولى (للبنان) متصادماً مع حقائق التاريخ والجغرافيا، مع ما يجره ذلك إلى إدخال الساحة اللبنانية، في مزيد من المشاكل والأحداث ومخاطرهما،لبنان قطعاً في غنى عنها!!.
على ما تقدم نقول: ليسمح لنا السيد رئيس الجمهورية، أن نعتبر خطابه الافتتاحي لسنة الاحتفال بالمئوية الأولى غير موفق،وهو خطاب إلى «الإغلاق» أقرب من «الافتتاح». خاصةً بعد أن شاب الخطابَ التحريفُ وإثارةُ الضغائن والافتئات على الحقائق التاريخية. مما جعل الخطاب، في النهاية، لا يخدم الوحدة الوطنية ولا يُنتج إلا التخاصم والتدابر بين أبناء لبنان الواحد، كما الإساءة «المدروسة» إلى علاقة لبنان «بتركيا اليوم» وبشعوب دول العالمين العربي والإسلامي. أضف إلى ذلك كله ما تحمله تلك الإساءة من «شحنٍ طائفي» تمت صياغته بعبارات ومعانٍ تضرُّ بلبنان الواحد وتسيء إليه على صعد مختلفة.
وعلى هذا يمكننا القول إنّ خطاب (فخامته) قد أساء أولاً، وقبل كل شيء،إلىالاحتفال بالمئوية الأولىبدءاً، وجعل الاحتفالات المنتظرة نكبة وشؤماً، بدل أن تكون عزاً وتفاؤلاً!!. وما نخشاه أن يكون «كَتَبَة» الخطاب قد أرادوا جرَّ الرئيس والبلاد والعباد إلى تشنج وانقسام عميقين، لبنان، اليوم وغداً،لا يحتاجهماخاصة وأنّ لبنان يواجه أطماعاً كبرى تريد إخضاعه والسيطرة عليه. بينما يفترض بالخطاب أن يكون رصيناً سليماً غير مدنس بأكاذيب مدَّعِيي التاريخ والسياسة ولو كان كذلك لأرخى الفرحة على اللبنانيين كافة وأبعدهم عن الخلاف والاختلاف على المئوية الأولى لدولتهم الوليدة.
من أجل ذلك كله وسواه،نرى من واجبنا أن نهدي السيد الرئيس،وأولئك الذين صاغوا خطابه المعيَّب،كتابَنا (قراءة إسلامية في تاريخ لبنان والمنطقة من الفتح الإسلاميّ ونشأة المارونيّة حتى 1840) الصادر عام 1986 عسى أن يجدوا فيه الحقيقة الصادقة. علماً أن الكتاب منشور على موقع الكلمة الطيبة www. kalimatayiba. com
6 ــ السيد الرئيس، لا يسعني في النهاية إلا أن أقول لكم: شكراً على كل ما جرى… فخطابك قد أغلق الاحتفال الوطني الجامع بالمئوية الأولى للبنان الحر المستقل. وننصح بوقف احتفالاتها أو تغيير برامجها وتعديلها بشكل يحفظ كرامة لبنان وشعبه وتاريخه وجيرانه (لا يشمل هذا المحتل الإسرائيلي). وكل مائة عامٍ والناس، على أرض ما يُعرف بلبنان الكبير «الصغير»، بخير ووحدة ومصير مشترك، لا نراه إلا مع امتداد العالمين العربي والإسلامي. شاء من شاء وأبى من أبى. والسلام.