كتب آلان سركيس في صحيفة “نداء الوطن”:
تمرّ الساحة المسيحيّة بتغيرات كثيرة، إذ إنها فُتحت على مرحلة جديدة من الإشتباك السياسي الذي لا يعرف أحد متى سينتهي وكيف ستكون خاتمته.
كان خطاب رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في قدّاس ذكرى شهداء “المقاومة اللبنانية” مفصلياً، فهو أعلن الطلاق مع العهد، وفتح النار في كل الإتجاهات مسمّياً الأمور بأسمائها، وكاشفاً كيف أن “التيار الوطني الحرّ” تنصّل من “إتفاق معراب”.
وبعد ذلك، انفجر الوضع بين “القوات” و”التيار الوطني” وسقط شعار “أوعا خيّك” ودخل النواب والقيادات في اشتباكات كلاميّة عنيفة. وفي هذه الأثناء، ينتظر الجميع من سيبادر إلى جمع “القوات” و”التيار الوطني” ومن هي المرجعية المخوّلة والقادرة على القيام بهذه المهمّة الصعبة.
وتتّجه الأنظار إلى بكركي، حيث تشير المعلومات إلى أن الإتصالات تكثّفت منذ مساء الأحد على أكثر من جبهة لكن من دون أن تؤدّي إلى أي نتيجة تُذكر.
وكان البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قد عمل في أكثر من مناسبة لجمع القادة الموارنة، وقال بعد زيارته بيت الدين: “إننا نبدأ أولاً بالحوار في ما بيننا ونرتّب بيتنا الداخلي”.
وتشير المعلومات أيضاً إلى أن “القوّات” لا تُبدي حماسة للقاء يجمع جعجع مع رئيس “التيار الوطني الحرّ” الوزير جبران باسيل، لأسباب عدّة أبرزها أن مثل هكذا لقاءات ستكون فولكلوريّة ولا معنى فقط للإجتماع وأخذ الصورة، كذلك فإن “التيار الوطني” الذي وقّع على “اتفاق معراب” تنصّل منه ولم يحترم توقيعه، إضافةً إلى أن اللقاء يكون بين جعجع والعماد ميشال عون، وليس بين جعجع وباسيل.
أما “التيار الوطني الحرّ” الذي يستأثر بالحصّة المسيحيّة، فإنه يرى أن “القوات” هي من خرجت عن نقاط “إتفاق معراب”، وبدأت بمحاربة العهد منذ انطلاقته ولم تكن سنداً لرئيس الجمهورية مثلما تمّ الإتفاق عليه، وخطاب جعجع واضح في فتح النيران على العهد من دون أدلّة، علماً أن باسيل أعلن مراراً وتكراراً تجاوبه مع أي مبادرة جديدة تخرج من بكركي. وعلى رغم حرص بكركي على إطفاء الحريق المسيحي، إلاّ أنّ اتصالاتها لا تزال تراوح مكانها، في ظلّ عدم تسجيل حراك لكل من الوسيطَين الوزير السابق ملحم الرياشي والنائب إبراهيم كنعان على خطّ إنقاذ “تفاهم معراب”، ما يعطي مؤشراً إلى أن الهوّة قد اتّسعت بين الطرفين إلى حدّ لا يمكن ردمها.
أما المرجعية الثانية القادرة على جمع “القوات” و”التيار الوطني الحرّ” مجدداً فهي بعبدا، إلا أن المعلومات تشير أيضاً إلى أن هذا الموضوع ليس مطروحاً في القصر الجمهوري، ولا يوجد على أجندة الرئيس عون أي موعد لجمع جعجع وباسيل، لأن الأولويّة الآن لسياسة الإنقاذ الوطني، بينما الصراعات السياسيّة لا تفيد.
وترفض بعبدا التعليق على خطاب جعجع الأحد، معتبرةً أن الوقت الآن ليس وقت الدخول في سجالات، خصوصاً أن جعجع شارك بعد الخطاب في اجتماع بعبدا الإقتصادي الإثنين.
وأمام كل ما يحصل على الساحة المسيحيّة، لا بدّ من تنشيط الذاكرة واستعادة المشهد العام والعلاقات بين القوى السياسيّة، فكل المراحل السابقة لم تجعل المسيحي يتعلّم من دروسها.
ولا يمكن تقييم الوضع الحالي إلا بالعودة إلى الماضي القريب، أي بعد توقيع “إتفاق الطائف”، حيث خرج المكوّن المسيحي من الدولة والحكم، والبداية كانت مع نفي العماد ميشال عون إلى فرنسا، من ثمّ المقاطعة المسيحيّة والوطنية لانتخابات العام 1992، وتبع ذلك سجن رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع العام 1994، ليبدأ زمن الإحباط الحقيقي، والذي تبعته ملاحقة النشطاء في “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحرّ” وكل الأحزاب التي كانت تطالب بالحريّة والسيادة والإستقلال وخروج الإحتلال السوري من لبنان.
وقفت “القوات” و”التيار” في مرحلة الإضطهاد جنباً إلى جنب، وتحقّق الإنسحاب السوري العام 2005 وعاد عون من المنفى وخرج جعجع من السجن، لكن كل تلك التغيّرات لم تجعل منهما حليفين، بل انقسما بين 8 و14 آذار، وكان 25 كانون الثاني 2007 تاريخاً مفصلياً حيث انفجرت الخلافات في الشارع على خلفية دعوة قوى “8 آذار” لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عبر إغلاق الطرق.
تطورات عدّة مرّ بها لبنان والمنطقة وكانت النقطة المفصلية مسيحياً في 2 حزيران 2015 حيث زار جعجع عون في الرابية وكانت ورقة “إعلان النوايا”، ليتبعها في 18 كانون الثاني 2016 توقيع “تفاهم معراب” وترشيح “القوات اللبنانية” للعماد عون الى رئاسة الجمهوريّة، ومن ثمّ انتخاب عون رئيساً في 31 تشرين الأول من العام نفسه.
لم يدُم شهر العسل القواتي – العوني طويلاً، بل انفجر الخلاف في حكومة العهد الأولى على خلفية ملفات عدّة أبرزها تصدّي وزراء “القوات” لـ”صفقة البواخر”، لكن كل ذلك لم يمنعهما من الإتفاق على قانون الإنتخاب النسبي، ليعود الخلاف
وينفجر بعد الإنتخابات النيابية على خلفية تحجيم حصة “القوات”، فما كان من معراب إلا أن كشفت بنود “تفاهم معراب” وتنصّل “التيار الوطني” منها.
ويبدو أن مهمّة جمع الطرفين لن تحصل قريباً، وسط تأكيد منهما على إبقاء سقف الصراع سياسياً وعدم اللجوء إلى لعبة الشارع، وهذا الأمر تُجمع عليه المرجعيات التي تدعو إلى إبقاء النزاع تحت سقف احترام الرأي الآخر وعدم الإنجرار إلى ممارسات يرفضها الشارع المسيحي والوطني.