IMLebanon

آخر حروب “الحزب”: الصواريخ وحدها لا تصنع انتصاراً

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:

بالمقياس العسكري لا الأمني هل يستطيع “حزب الله” أن يحقق توازن الرعب مع إسرائيل؟ هل بإمكانه أن يقوم بما عجزت عنه الأنظمة العربية “المقاتلة” منذ المعركة الفاصلة في أيار 1948 التي أدت إلى قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين؟ هل الصواريخ وحدها هي الطريق إلى فرض هذا التوازن؟ هل محور الممانعة الذي يتحدث عنه الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله أقوى اليوم من قوة “جبهة الصمود والتصدي” ومن قوة مصر وسوريا في حرب 1967 وحرب 1973؟ وهل الدعم الإيراني اليوم أقوى من الدعم السوفياتي في الحروب التي أخفقت فيها الدول العربية مجتمعة في تحقيق النصر أو حتى الصمود وتجنّب الهزيمة؟

قد يستطيع “حزب الله” أن يحقق إزعاجاً كبيراً لإسرائيل ولكنه في واقع الأمر لا يستطيع أن يصنع انتصاراً، ذلك أن موازين القوى بين الطرفين ليست متكافئة بالمعنى العسكري التقليدي لحجم القوى المسلحة من حيث العديد والتجهيز والخبرة والدعم الدولي. ولا يبدو أن الحزب يستطيع أن يدخل في عملية سباق تسلح ولا يمكنه أن يستند إلى دعم إيران البعيدة عن الجبهة وبالتالي أقصى ما يمكنه أن يقوم به هو الإستمرار في القيام بعمليات محدودة تحت سقف القرار 1701 الذي لا يمكنه أن يتحمل سقوطه حتى ولو اعتقد أنه يحظى بغطاء رسمي.

تنفس الإحتقان الذي ساد بعد عمليتي عقربا السورية والضاحية الجنوبية في لبنان إلى حد إطلاق الصاروخين من داخل منطقة عمل القوات الدولية على آلية إسرائيلية داخل الخط الأزرق. هدد السيد حسن نصرالله بالرد. انتظرت إسرائيل. لم يكن الرد على قدر التهديد. باتت المسألة تتعلق بعدد الإصابات التي أوقعها الصاروخان في صفوف العدو الإسرائيلي وهل تمكنت إسرائيل من خداع “الحزب” وتجنب سقوط قتلى في صفوف جيشها؟

لقد خرج حزب الله عملياً من المواجهة العسكرية مع إسرئيل منذ وافق على وقف النار بعد حرب تموز 2006 في 12 آب وتحول إلى حروبه الداخلية في لبنان قبل أن يدخل إلى دائرة الحروب السورية.

صحيح أن “الحزب” يقول إنه حقق انتصاراً في هذه الحرب بدليل أنه منع إسرائيل من تحقيق هدفها القضاء عليه. ولكن في الواقع لقد أخفق “الحزب” أيضا في تحقيق هدفه بالبقاء علناً على الأقل في ساحة المواجهة وقد تأكد ذلك من خلال محافظته على وقف النار وبالتالي بقاء الجبهة الجنوبية هادئة.

ذاك الإتفاق يشبه عملياً خروج الجيوش العربية تباعاً من المواجهة مع إسرائيل. في العام 1974 وقعت سوريا تحت قيادة رئيسها حافظ الأسد اتفاق وقف النار في الجولان وإذا كان احتفل برفع علم بلاده فوق القنيطرة بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي منها فإنه لم يرسل جيشه إلى هناك حيث انتشرت القوات الدولية في المنطقة المنزوعة السلاح ولا تزال تتمركز فيها منذ 45 عاماً لم تطلق خلالها سوريا أي رصاصة على تلك الجبهة حتى جاء “حزب الله” ليحاول أن يغير ذلك الوضع من دون أن يفلح بذلك.

وفي العام 1975 خرجت مصر من المواجهة بعد اتفاقية سيناء قبل أن يذهب الرئيس أنور السادات إلى القدس وقبل أن يتم توقيع اتفاقية كامب دايفد مع مناحيم بيغن في 14 أيلول 1978 التي أنهت الحرب بين البلدين. صحيح أن السادات دفع حياته اغتيالاً ثمن هذا السلام في 14 تشرين الأول 1981، ولكن السلام لم يسقط. جاء بعده حسني مبارك وبقي حتى العام 2011 وبقيت اتفاقية السلام سارية. وجاء بعده في العام 2012 محمد مرسي زعيم جماعة الإخوان المسلمين التي تبنت اغتيال السادات ولم يتجرأ على إسقاط السلام وسقط بعد عام ليخلفه الرئيس عبد الفتاح السيسي ولتبقى اتفاقية كامب دايفد سارية المفعول وناظمة العلاقة بين مصر وإسرائيل.

في زمن الصراع قبل السلام لم تكن حال مصر أفضل. كان الجيش المصري، ولا يزال أقوى الجيوش العربية. في العام 1956 لم يكن قد مضى إلا أربعة أعوام على تولي الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر مقاليد السلطة بعد انقلاب عسكري أطاح الملكية حتى منيت مصر بأول هزيمة في مواجهة إسرائيل. وبعد 11 عاماً وعلى رغم كل المجهود العسكري الذي بذله عبد الناصر وعلى رغم إحساسه بالتفوق ومطالبته بسحب القوات الدولية لإغلاق مضائق تيران مني بالهزيمة الثانية بعد الحرب المفاجئة التي شنتها إسرائيل على جبهات سيناء والجولان والضفة الغربية وانتهت باحتلال هذه المناطق في حزيران 1967. كان عبد الناصر يمثل عهد القوة والممانعة العربية في الصراع مع إسرائيل وكان في سوريا أيضا نظام البعث ووزير الدفاع حافظ الأسد.

في العام 1973 لم تكن حرب الغفران في تشرين الأول إلا تكراراً للفشل العربي. اعتقد أنور السادات وحافظ الأسد اللذان توليا السلطة في العام 1970 أنهما قادران على تحقيق التوازن مع العدو الإسرائيلي والخروج من فخ الهزيمة المتكررة ولكن في النتيجة كانت تلك الحرب آخر الحروب العربية الكبرى في ظل الأنظمة الكبرى. كان العقيد معمر القذافي في ليبيا وهواري بومدين في الجزائر وصدام حسين في العراق وكانت حروب التخوين مستمرة ضد أنظمة الخليج ولكن نتائج الحرب لم تتغير.

اليوم بعد 46 عاماً على تلك الحرب تحاول إيران أن تبني نظام ممانعة جديدا ولكن هل يمكن أن تنجح في خوض المواجهة التي خسرتها أنظمة عربية كانت تعلن أنها ثورية واشتراكية وتحررية مدعومة من الإتحاد السوفياتي؟

لقد بقي لبنان الجبهة العربية الوحيدة المفتوحة في الصراع مع العدو الإسرائيلي. في العام 1978 شنت إسرائيل اجتياحها الأول للبنان وصولاً إلى الليطاني وانسحبت بعد صدور القرار 425 وأبقت على الشريط الحدودي. منذ العام 1965 فتحت المنظمات الفلسطينية هذه الجبهة ولم تستطع أن تحقق إلا خروقا محدودة في عمليات انتقائية لا يمكن أن تغير مجرى الحرب والأحداث.

في حزيران 1982 كان الإجتياح الإسرائيلي الثاني الذي أخرج منظمة التحرير من لبنان وأنهى عمليا أي خطر عسكري حقيقي ولكن في ذلك العام حاولت إيران أن يكون “حزب الله” في لبنان بديلا عن منظمة التحرير لتبقى جبهة الجنوب الجبهة العربية الوحيدة المفتوحة مع إسرائيل ولتحاول بالتحالف مع نظام الأسد في دمشق أن ترث محور الممانعة العربي.

خاض “الحزب” أكثر من مواجهة مع العدو الإسرائيلي ولكن من دون أن ترتقي هذه المواجهات إلى مستوى الحرب الحقيقية.

في 25 تموز 1993 شنت إسرائيل عملية “تصفية الحساب” التي استمرت سبعة أيام وانتهت باتفاق شفهي على وقف النار وكان هدفها منع سقوط صواريخ “حزب الله” في الداخل الإسرائيلي. كانت قوة “حزب الله” الصاروخية لا تزال متواضعة ومقتصرة على الغراد والكاتيوشا.

في نيسان 1996 شنت عملية “عناقيد الغضب” للهدف نفسه. بعد 15 يوماً من القصف المتبادل انتهت العملية بـ”تفاهم نيسان” المكتوب الذي نص على احترام وقف النار.

في العام 2000 حصل الإنسحاب الإسرائيلي. بقيت مزارع شبعا حجة لبقاء “حزب الله” محتفظاً بسلاحه وصواريخه ساعياً إلى زيادة قدراته القتالية وفعالية هذا السلاح الذي اعتبر أنه من خلاله يمكنه أن يحقق التوازن العسكري مع إسرائيل.

حرب تموز 2006 لم تكن حرباً عسكرية بالمعنى العسكري التقليدي. لم تكن تشبه اجتياح 1978 أو اجتياح 1982. كانت حرباً محدودة كان يمكن أن تنتهي خلال أيام لو تم التوصل إلى القرار 1701 الذي نص على وقف إطلاق النار ورفع عديد القوات الدولية في الجنوب إلى ما يقارب 15 ألف جندي وإرسال نحو عشرة آلاف جندي من الجيش اللبناني إلى المنطقة على سبيل البدء باستعادة السيادة اللبنانية الكاملة على الأراضي اللبنانية. صحيح أن “حزب الله” استطاع أن يتملص من سحب سلاحه من منطقة جنوب الليطاني ولكنه لم يستخدم هذا السلاح مطلقا حتى كانت عملية إطلاق الصاروخين يوم الأحد أول أيلول.

على مدى الأعوام الممتدة منذ العام 2006 حاول “الحزب” تحقيق تقدم على صعيد الترسانة العسكرية التي يمتلكها. وقد ساعدته الحرب في سوريا على زيادة قدراته القتالية ولكن القتال ضد داعش وجبهة النصرة والمسلحين غير المنظمين لا يشبه أبداً الحرب ضد الجيش الإسرائيلي.

لم يخف “الحزب” أنه عمل على امتلاك أسلحة كاسرة للتوازن. ولم يخف أيضا أنه يحاول الحصول على صواريخ ذكية وطائرات مسيرة وأكثر من مرة أعلن أمينه العام أنه بات قادرا على إصابة أي هدف في داخل فلسطين المحتلة وأن جولة القتال المقبلة ستكون في الجليل وأن قوات “حزب الله” ستكون هناك وأن جيش العدو الإسرائيلي سيتحطم إذا حاول التقدم نحو الأراضي اللبنانية. وآخر ما قاله على هذا الصعيد أن الشعب الإسرائيلي سيشاهد مباشرة على الهواء جيش بلاده وهو يتدمر.

في المواجهة الأخيرة كشف نصرالله أن حزبه لا يملك مصانع لتطوير الصواريخ. هدد بالرد ولكنه لم يهدد بنقل الحرب إلى داخل إسرائيل. كشفت إسرائيل الأنفاق التي كان يتم حفرها ولكنه لم يتبنّ وجودها أو قيامه بحفرها. خاض “الحزب” معارك كثيرة داخل سوريا وحقق انتصارات على فصائل من المعارضة خصوصا في القلمون والقصير والزبداني وحلب وغيرها. صحيح أيضا أنه امتلك وحدات قتالية برية منظمة وأسلحة وآليات ولكن كل هذه الأسلحة لا يمكنه أن ينقلها من سوريا إلى لبنان ولا يمكنه أن يزجها في حرب مع إسرائيل لأنه لا يملك أي غطاء جوي لها.

يستطيع “الحزب” أن يقول إن محور الممانعة انتصر في سوريا لأن نظام الأسد لم يسقط. ويستطيع أن يقول إن هذا النظام صامد في أجزاء من اليمن ومن خلال الحشد الشعبي في العراق وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة ولكن كل ذلك لا يمكن أن يصنع ما يمكن تسميته انتصاراً، إنه عدم هزيمة في حرب لا تزال مستمرة تتعرض فيها إيران قائدة المحور إلى حصار لا يستثني “حزب الله”.

لقد أسقطت الحروب مع إسرائيل معظم الجيوش العربية الكبيرة. الجيش المصري لم يعد معداً لقتال إسرائيل. الجيش السوري بات منهكاً في حروب داخلية لا تنتهي. الجيش العراقي الذي أعده صدام حسين ولم يتمكن في العام 1973 من نجدة مصر وسوريا، تحول منذ العام 1980 لقتال إيران قبل أن يسقط مع سقوط صدام حسين. تلك الجيوش التي لم تشكل في أي مرحلة تهديداً لوجود إسرائيل لم تشكل أيضا حماية لأنظمتها. ولدت معاً وسقطت معاَ.

واقع الأمر أن “حزب الله” يزج نفسه اليوم في مواجهة غير قادر على الإستمرار فيها وتحقيق أي توازن أو انتصار وغير قادر على الخروج منها من دون خسائر وانكسار. لا يستطيع أن يعلن تخليه عن سلاحه ولا يستطيع أن يحقق ما يرغب فيه. ثمة أجواء مفتوحة أمام إسرائيل من لبنان إلى سوريا إلى العراق وربما إلى إيران، من يدري. وفي المقابل ثمة أجواء مقفلة أمام إيران المحاصرة بالعقوبات ومعها “حزب الله”. كأن مشهد ناقلة النفط الإيرانية أدريان-داريا التائهة في البحار لا تجد ميناء يستقبلها يختصر المشهد الإيراني بكامله في المنطقة بانتظار أن يلقي مراسيه في مرفأ ما يوما ما ويعود إلى قواعده. حتى النظام السوري لا يجرؤ على استقبالها وتفريغ ما فيها من نفط. إنها نقطة ضعف في بحر من المكابرة. ثمة فالق كبير بين الرغبة بالنصر وبين القدرة على تحقيق النصر الذي لا يمكن أن تصنعه الصواريخ وحدها سواء أكانت ذكية أم غير ذكية.

صحيح أن «”حزب الله”» استطاع أن يتملّص من سحب سلاحه من منطقة جنوب الليطاني ولكنه لن يستخدم هذا السلاح مطلقاً حتى كانت عملية إطلاق الصاروخين يوم الأحد أول أيلول

لقد خرج «”حزب الله”» عملياً من المواجهة العسكرية مع إسرئيل منذ وافق على وقف النار بعد حرب تموز 2006 في 12 آب وتحوّل إلى حروبه الداخلية في لبنان قبل أن يدخل إلى دائرة الحروب السورية.