كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
للمرة الثانية منذ 26 آب، يعيد الرئيس ميشال عون تأكيد موقف رسمي متطابق مع حزب الله: حق لبنان في الدفاع المشروع عن النفس في كل مرة تخرق اسرائيل قواعد الاشتباك وتنتهك السيادة. الموقف ليس جديداً منذ عام 1993. لكن مغزاه الآن مختلف.
قد لا يكون هجوم الطائرتين المسيّرتين الاسرائيليتين على الضاحية الجنوبية، في 24 آب، في حجم اربعة نزاعات مسلحة كبيرة بين حزب الله واسرائيل منذ ما بعد اتفاق الطائف: عاما 1993 و1996، ثم الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب عام 2000، فحرب تموز عام 2006، اضف نزاعاً خامساً، محدوداً، طرفاه الجيش اللبناني واسرائيل في العديسة علم 2010. الا ان الدلالات العسكرية والسياسية لاعتداء الضاحية قد لا تقل اهمية.
حتى الوصول الى 24 آب، احاط بالنزاعات المسلحة السابقة اكثر من تبرير في السياق الذي اتخذته، وهي رافقت ثلاثة رؤساء للجمهورية هم الياس هراوي واميل لحود وميشال سليمان. ثلاثة من المواجهات المسلحة تلك في ظل الوجود العسكري والسياسي السوري (1993 و1996 و2000)، قيل آنذاك ان دعم السلطات اللبنانية الحاكمة حزب الله نجم عن ان هذه مغلوب على امرها. قيل ايضاً ربما كانت قليلة الايمان في هذا الدعم، بيد ان الحقبة السورية ارغمتها على الوقوف وراء الحزب بسبب المواجهة المستترة السورية – الاسرائيلية. بذلك، تبعاً لما شاع لدى معارضي دمشق، فإن هذه بقرار سوري محض – لحسابات اقليمية – قادت لبنان الى الاشتباك مع اسرائيل من خلال التعويل على حزب الله وسلاحه.
في حرب 2006 كان الجيش السوري قد جلا عن لبنان، الا ان السلطات اللبنانية الحاكمة اضحت في مقلب مناوئ وعدو لسوريا، عبّرت عنه حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، رغم استمرار لحود في رئاسة الجمهورية، لكن فاقد الدور والهيبة تماماً. وقتذاك، منذ اليوم الاول لحرب تموز، وصفت الغالبية الحكومية تصرّف حزب الله وأسره جنديين اسرائيليين بالتهوّر الذي يقود لبنان الى الخراب، قبل ان يصير الى تصويب هذا الموقف جزئياً لاحقاً. مع ذلك، أُدرِج موقف الغالبية – على طرف نقيض من المرحلة السورية – على انه جزء لا يتجزأ من موقف غربي عام مناوئ لحزب الله. لم تتبنّ تلك السلطات مقاومة حزب الله على غرار عامي 1993 و1996، وتردد في كمّ لا يستهان به من الوثائق الرسمية والديبلوماسية ان قوى 14 آذار راهنت على تجريد الحزب من سلاحه في خاتمة تلك الحرب. في المقابل كان دور دمشق من وراء الحدود فتح مخازن الجيش السوري لحزب الله للتزود اسلحة وعتاداً.
اما التجربة الخامسة في عهد سليمان، فلم يكن الحزب طرفاً فيها، بل الجيش اللبناني الذي واجه الاسرائيليين في اشتباك شجرة العديسة، في محاذاة الخط الازرق في 3 آب 2010، الذي ادى الى استشهاد عسكريين لبنانيين اثنين ومقتل ضابط اسرائيلي، إضافة إلى الزميل عساف بو رحال. بعد الاجماع الوطني العريض على دعم الجيش في الاصطدام مع الاسرائيليين، مع ان قرار قيادة اليرزة بخوض المواجهة اتى لاحقاً بعدما سارع احد العسكريين الى اطلاق النار على الجنود الاسرائيليين – بلا إذن قيادته – عندما حاولوا اقتلاع الشجرة، استخدمت واقعة العديسة في ذلك الوقت لإبراز عدم جدوى استمرار احتفاظ حزب الله بسلاحه، وتالياً اناطة مهمة الدفاع عن الجنوب بالجيش وحده.
في حصيلة السوابق الخمس تلك، تأتي حادثة الضاحية الجنوبية كي تفتح باباً عريضاً على تفسير موقف لبناني رسمي غطى الدور العسكري لحزب الله، قبل ان يرد على اعتداء الضاحية ثم بعده. فإذا موقف رئيس الجمهورية ميشال عون في 26 آب، بمفردات ديبلوماسية، اتى مكملاً للموقف الذي اعلنه الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في اليوم السابق، 25 آب، غداة الهجوم على الضاحية بجزمه بالرد بعدما وصف ما حدث بأنه خطير جداً. بعدما قال نصرالله ان حزبه سيرد، لاقاه عون بتأكيد «حق لبنان في الدفاع المشروع عن النفس». وفي اولى ليالي عاشوراء، في 31 آب، قال نصرالله مجدداً ان الرد «حتمي ومحسوم ومن داخل لبنان». بعد ظهر اليوم التالي، الاول من ايلول، هاجم مقاتلو الحزب الآلية الاسرائيلية. امس، في موقف اضافي لتبرير ما فعل حزب الله وتأكيد دعمه، اعاد رئيس الجمهورية امام ممثل الامين العام للامم المتحدة في لبنان يان كوبتش الكلام عن «الحق المشروع في الدفاع عن النفس». كلام البارحة جاء في توقيت بارد بعدما انحسرت العاصفة وردود الفعل والسجالات على الهجوم المضاد للحزب، كي يجزم رئيس الجمهورية بأن هذا الموقف يمثّل السلطات اللبنانية الحاكمة.
لكن ما انطوى عليه الغطاء الرسمي الجديد، المختلف عن السوابق الخمس، بضع ملاحظات:
اولاها، ان هذا الغطاء يصدر عن رئيس الجمهورية الذي لا يُعثر له على سبب كي يُقال انه مغلوب على امره في موقفه هذا. فالرجل، منذ ما قبل وصوله الى الرئاسة، بل ما قبل حرب تموز 2006، ابرم تفاهماً مع حزب الله مثّل حينذاك غطاء مسيحياً كبيراً له ولسلاحه، ثم سارع منذ اندلاع حرب تموز الى الوقوف الى جانب الحزب بينما الافرقاء المسيحيون، كما الآخرون في قوى 14 آذار، نددوا بما عدّوه افتعال حزب الله تلك الحرب. لذا بدا طبيعياً ان يكون عون اول من ندد بالاعتداء على الضاحية الجنوبية، وبرر الرد وحق الدفاع عن النفس. بذلك منح الحزب اول غطاء رسمي غير منقوص، او مطعون في صدقيته، او تدعمه مرجعية اقليمية.
ثانيها، تمسك رئيس الجمهورية بحصر الغطاء الرسمي به هو دونما اللجوء الى مجلس الوزراء كي يصدر عنه موقف كهذا، اعتادته الحكومات المتعاقبة في الحقبة السورية بإعلان دعمها حزب الله. لا ريب في ان المجلس سينقسم حتماً حيال تبني موقف الرئيس، مقدار ما سيمثل احراجاً لرئيس الحكومة سعد الحريري الآتي لتوّه من واشنطن. لم يحل ذلك دون انضمام الحريري الى موقف عون.
ثالثها، خلافاً لمواقف معظم الافرقاء، واولهم معارضو حزب الله وخصومه، التي تراوحت بين حدَّي التنديد بالاعتداء الاسرائيلي وبين احتواء رد الفعل بمطالبة الحزب بعدم التصعيد ضد اسرائيل خشية جر لبنان الى حرب شبيهة بحرب 2006، صبّ موقف عون، في المرة الاولى ثم الثانية، في تأكيد الاصرار على حق الرد الى حد قوله في 26 آب ان ذلك الاعتداء «اعلان حرب يوجب الرد»، ونبذ اي فكرة للاحتواء او التغاضي عما حدث. موقف كهذا ليس اقل اهمية من القرار الامني للحزب بشن هجوم مضاد، ما لم يُعدّ ايغالاً في الحض وربما التحريض.
رابعها، ضمر عون حصر حق الرد بحزب الله، فلم يُشر الى انه مهمة الجيش ايضاً، آخذاً في الاعتبار جانباً مهماً يرتبط بالاميركيين اكثر منه بالاشتباك مع اسرائيل، هو احتمال فقدان لبنان المساعدات العسكرية الاميركية لجيشه في حال استخدم السلاح الاميركي – اياً يكن طرازه – وفي معزل عن توازن القوى وتكافؤها، ضد اسرائيل. اذ يقترن تدفق هذه المساعدات بقيود متشددة حيال الدولة العبرية وعدم التعرّض لأمنها من جهة، وقصر استعمال السلاح الاميركي على مكافحة الارهاب من جهة اخرى.