كتب القاضي لبيب زوين في صحيفة “الجمهورية”:
يقرّر المُشَرِّع الدستوري في المادة 95 من الدستور:
أ- أنّه على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيّين إتّخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء «الطائفيّة» السياسيّة وفق خطّة مرحليّة.
ب- وأنّه يقتضي تشكيل هيئة وطنيّة تكون مهمّتها:
– دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة «بإلغاء» الطائفيّة (والصحيح «إزالتها» لأنّ الطائفيّة حالة وليست نصّاً لكي يقال «بإلغائها»!!)
– تقديم هذه الإقتراحات إلى مجلس النواب والوزراء.
– متابعة تنفيذ الخطّة المرحليّة المفترض وضعها لتحقيق «إلغاء» الطائفيّة.
ج- وأنّه في المرحلة الإنتقاليّة:
– تُمَثَّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
– تُلْغى قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وما يعادل الفئة الأولى فيها…
ومن غير المختلف عليه،
– أنّ أيّة خطّة مرحليّة لإلغاء «الطائفيّة» السياسيّة – التي يقوم عليها النظام المرعي الإجراء – لم توضع.
– وأنّ أيّة إجراءات ملائمة لتحقيق إلغاء «الطائفيّة» السياسيّة لم تُتَّخَذ.
– وأنّ الهيئة الوطنيّة التي كانت تفرض المادة 95 إنشاءَها لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة «بإلغاء» الطائفيّة لم تُشَكَّل.
– وأنّ أيّة إقتراحات حول «إلغاء» الطائفيّة لم تُقَدَّم إلى مجلس النواب والوزراء لا من قبل الهيئة التي لم تُشَكّل ولا من أيِّ مرجع آخر.
– وأنّ أيّة متابعة لتنفيذ أيّة خطّة مرحليّة لم تحصل لعدم وضع هذه الخطّة أصلاً.
تأسيساً على ما تقدّم، فإنّ ما اشترطت المادة 95، في شقّها الأوّل، تحقيقه خلال المرحلة التي سمَّتْها «المرحلة الإنتقاليّة» قد بقي، في بنوده كافة، من دون تحقيق، فلا تكون هذه المرحلة قد وُلِدَت أو تكوّنت أو تجسّدت لا واقعاً ولا قانوناً، إذ إنّه من المُسلَّم به أنّ المرحلة الإنتقاليّة، بمفهومها اللّغوي والقانوني، هي المرحلة التي يُصار خلالها «العمل» على إحداث التغيير المطلوب في الحالة القائمة وصولاً إلى إنشاء حالة جديدة. وأنّه من الراهن أنّه لم يجر العمل على أيّة إجراءات آيلة إلى الإنتقال من حالة إلى حالة لا على صعيد إزالة الطائفيّة، ولا على صعيد إلغاء الطائفيّة السياسيّة، فلا تكون الأحكام التي تنصّ المادة 95 على اعتمادها في المرحلة الإنتقاليّة واجبة أو جائزة التطبيق لعدم تَحَقُّق الشروط التي كان من المفترض تحقيقها في المرحلة الإنتقاليّة في مقابل تطبيقها، وعدم تَحَقُّق ولادة هذه المرحلة أصلاً.
إنّ مناسبة طرح فخامة رئيس البلاد تفسير المادة 95 على البحث، لا بدّ من أن يؤدّي إلى التطرّق إلى الأساسيّات التي قام عليها، والتي يقتضي أن يبقى عليها هذا الوطن، وبالتالي، تفسيرها في ضوء مفهوم هذه الأساسيّات، وضوء كيانيّة وغائيّة ووظيفة لبنان، ولا سيّما في محيطه العربي الذي يوشك أن يضحي أحاديّ التكوين واللّون.
ومن أهمّ هذه الأساسيّات:
1- أنّ تعدّد «الطوائف» أو «المجتمعات» أو «العائلات الروحيّة» التي تشكّل شعب لبنان الواحد، هو «واقعٌ تكويني».
2- وأنّ هذا الواقع، بحكم كونه تكوينيّاً، يُحَتِّمُ اعتباره ثابتة من الثوابت الوطنيّة، وبالتالي، اعتبار أنّ ديمومة لبنان – فكرةً، وماهيةً، وكيانيّةً ووظيفةً – تبقى متلازمة مع تعدّديّته التكوينيّة المجتمعيّة الطوائفيّة» هذه.
3- وأنّ هذا الواقع التكويني يوجب التأسيس عليه في أي ظرف وقضيّة، وهو يشكّل الأساس الميثاقي – الدستوري – الواقعي، في آنٍ معاً الذي يفرض مشاركة مجتمعاته المتعدّدة في إدارته وليس تَشَوُّه هذه المجتمعات أو عدم تشوّهها بعلّة الطائفيّة. وذلك طالما بَقِيَتْ خصوصيّات وتمايزات هذه المجتمعات قائمة ولم تَذُبْ جميعها في ذاتيّة الوطن الواحدة الموحّدة.
4- وأنّه لا يجوز التكلّم على «الطائفيّة» كلّما كان الكلام على «الطائفة» أو على مشاركتها في إدارة الحياة الوطنيّة كمجتمع مكوّن للوطن وحقّها في عيش هذه الحياة عيشاً فعليّاً، ذلك أنّه إذا كانت الطائفة هي ذاتها المجتمع، في الواقع المشرقي، فإنّ ذلك لا يسمح بإقصائها، «كمجتمع»، عن المشاركة في إدارة الوطن المشاركة في تكوينه لمجرّد أنّها «طائفة» تحت طائلة نعت مشاركتها بأنّه عمل طائفي في حين أنّ مشاركتها تكون بصفتها مجتمعاً مكوّناً للوطن وليس بصفتها تمارس «الطائفيّة».
5- وأنّه لا يمكن تصوّر حياة الوطن التعدّدي من دون عيش مشترك فعلي ومن دون وفاق وطني، إلّا أنّه لا عيش مشتركاً آمناً ومستقرّاً في وطن تتحكّم الطائفيّة في مجتمعاته، ما يوجب العمل على إزالة الطائفيّة من النفوس والممارسة، العلّة المهدِّمة للمجتمع والدولة والوطن، كأولويّة مطلقة تتقدّم على سائر الأولويّات.
6- وأنّ «تعدّديّة لبنان الطوائفيّة» لا تتحمّل إلّا دولة مدنيّة: وانّ في لبنان دولة مدنيّة، وانّ نظامها مدني:
فإنّ ما يُضفي على النظام وصفه المدني هو دستوره وقوانينه، وان دستور لبنان لا ينصّ على أنّه دولة تدين بدين رسمي معيّن، وعلى أنّ مصدر التشريع فيه هو الدين، وعلى أنّ للمراجع الدينيّة فيه أيّ دور في إدارة شؤون الدولة أو أيّ سلطة عليها، بل انّه دستور قائم على ركائز مدنيّة، وإنّ وصفه بالنظام «الطائفي» – في حين أنّه نظام «طوائفي – مجتمعي» لمجرّد أنّه يعتمد ضابطاً لتوزيع متعادل للأنصبة في السلطة بين مجتمعاته – طوائفه المكوّنة لشعبه، ولمجرّد أنّه ينصّ على المحافظة على استقلاليّة الأحوال الشخصيّة لكلّ من مذاهبه، هو وصف خاطئ بالمطلق لتعارضه مع مفهوم «الطائفة» في العالم المشرقي ومع مفهوم «الطائفيّة» ذاتها، ولعدم إعتماده هذين الإستثناءَين لأسباب وغايات طائفيّة، ولكون سائر القوانين التي تُقرّ تبقى نابعة من منطلقات مدنيّة بحتة. وهو موضوع لا مجال بكلّ حال للتوسّع فيه في إطار هذا البحث.
7- إنّ حصر قاعدة التمثيل مناصفة بين المسلمين والمسيحيّين بوظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها من شأنه أن يؤدّي، عمليّاً، مع تطوّر الخلل الديموغرافي المطرد في المجتمع الوطني، إلى إنشاء إدارات عامة جهازها الإداري البشري شبه أحادي التكوين مع رأس لهذا الجهاز من مكوّن آخر، الأمر الذي سينتج منه:
أ – من جهة، المساس بمقتضيات الوفاق الوطني القائم على العيش المشترك، القاعدة الأساس لاستمراريّة الوطن.
ب – ومن جهة ثانية، المساس بفاعليّة عمل الجهاز الإداري لما يُنتج من إضعــاف فعليّ لسـلطة الرّئيـس على مرؤوسيه الذين قد لا يجد لديهم التجاوب الواجب لحسن سير العمل فيه.
ج- ومن جهة ثالثة، إلى تغذيــة شـعور أبنــاء المكون المقصود بهذا الحصـر،
بالغربة عن الوطن الذي يقصيهم، عمليّاً، ما يُضعف لديهم الرغبة في البقاء فيه ويحملهم على سلوك طريق الهجرة، وهو الخطر الكيــاني الأخطر الذي يمكن أن يلحق بالوطن، في حين أنّ المطلوب اليوم أن يتجنّد أصحاب الرأي والكلمة في لبنان والعالم العربي للعمل على إعتماد برنامج متكامل ليس إلى الحد من هجرة مكونــاتهما المتنوّعة منهمــا فحسب، بـل إلى التشجيع على البقاء.
وقد يكون في التفكير مليّاً بما سيؤول إليه لبنان بتحوّله من وطن نموذجي يحتذى إلى وطن لا رسالة ولا دور حضارياً له، ما يحُض على إعادة النظر بالإستراتيجيّة الآيلة إلى تفادي مثل هذا المصير.
من هذه المنطلقات، ومن هذه المنطلقات فقط، يقتضي أن ينطلق تفسير المادة 95 من الدستور أو أي نص يتطرّق إلى مواضيع أساسيّة تمسّ جوهر النظام الذي يقتضي أن يقوم عليه الوطن اللّبناني التعدّدي. وذلك بصرف النظر عن أنّ مفهوم هذه المادة لا يحتاج أصلاً إلى أي تفسير لوضوح نصوصها وضوح النهار.