كتب رنى سعرتي في صحيفة “الجمهورية”:
إعتبر الخبير الاقتصادي فريدي باز، انّ ما يحدث اليوم حفلة إنكار جماعي من قبل السلطات للاهداف الاستراتيجية، عبر إلهاء المواطنين بأمور سطحية، موضحاً انّ الاسواق لا تتوقع اليوم نتائج نهائية، بل تريد فقط مؤشرات مادّية ايجابية تدلّ الى جدّية السلطات في تغيير المسار، بغض النظر عن الفترة المطلوبة لتحقيق النتائج المرجوّة.
اشار باز، الى انّ السلطات في لبنان أعطت تقرير «ستاندرد اند بورز» أهمية أكبر من حجمه، «لدرجة ان الحكومة باتت ملتزمة مهلة 6 أشهر التي حدّدتها الوكالة، كأنّ الاخيرة هي التي تحكم البلاد»، علماً انّ تقرير الوكالة الصادر في آذار الماضي، حدّد العوامل التي يمكن ان تحسّن تصنيف لبنان كما العوامل التي يمكن ان تؤدي الى تراجع تصنيفه، ومع ذلك لم تُقدم الحكومة على اتخاذ أي من تلك الاجراءات لتحسين تصنيف الدولة.
واوضح باز، انّ خفض التصنيف لا يؤثر على كلفة الدولة للاستدانة لأنّ المصارف المحلية هي التي تكتتب في اصدارات الدولة في حين انّ الجهات الخارجية لا تشكّل سوى 5 في المئة من حجم الدين العام. كما انه لا توجد استثمارات خارجية مباشرة ذات أهمية في لبنان قد تتأثر سلباً في خفض التصنيف، بالاضافة الى انّ كلفة الودائع في المصارف لم تكن يوماً حسّاسة تجاه التصنيفات الائتمانية.
وفيما شدّد على انّ خفض تصنيف لبنان الى CCC يسيء الى سمعة البلاد، أكّد انّ الاساءة لا تُترجم بانحرافات كبيرة في الاسواق المالية لأنّ لبنان غير حسّاس نوعاً ما الى تصنيفه الائتماني.
واشار الى انّ المصارف هي المتضرّر الاكبر من خفض التصنيف لأنّها تحمل الجزء الاكبر من السندات السيادية المحلية والاجنبية، وبالتالي فانّ المعالجات الحسابية النظامية تفرض بعد خفض 2 من 3 وكالات عالمية تصنيف لبنان الى CCC، رفع نسبة التثقيل على سندات اليوروبوندز، ما يعني إلزام المصارف تأمين رساميل نظامية أكبر.
كما لفت باز الى انّ علاقة المصارف اللبنانية مع المصارف المراسلة تتأثر بتداعيات خفض التصنيف، التي ادّت الى تراجع نسبة ملاءة المصارف المحلية، وبالتالي فانّ البنوك المراسلة ستأخذ في الاعتبار الوضع المستجدّ للمصارف اللبنانية من ناحية النظام الرأسمالي Capital ratio عند تجديد خطوط الائتمان.
حال الطوارئ الاقتصادية
وأسف باز ألاّ يكون اجتماع بعبدا الاقتصادي قد تطرّق الى المشكلة الاساسية والعوامل الاساسية التي أدّت الى انعدام النمو في لبنان تدريجياً منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2010. واعتبر انّ الاجتماع كان يجب أن يخرج بأهداف كميّة وبالتزامات حكومية ضمن فترة زمنية محدّدة أهمّها:
– برنامج تنفيذي محدّد.
– التزام الحكومة بمؤشر نمو يفوق معدل التضخم بنسبة 25 في المئة.
– التزام الحكومة بنسبة معيّنة لمؤشر الفقر والضيق (مجموع معدل التضخم + معدل البطالة)
كما أسف ان يكون اجتماع بعبدا قد تطرّق بشكل خجول الى موضوع تحفيز النمو، مشيراً الى انّ السلطات تعتبر انّ الهدف هو تصحيح المالية العامة في حين انّ الهدف الاساس يجب ان يكون تأمين نمو مستدام وخلق فرص عمل.
واعتبر انّ مشكلة لبنان اليوم لا تقتصر على وضع المالية العامة والبنية التحتية، بل المشكلة الاساسية تكمن في فقدان لبنان مخزونه من الرأسمال وهو بمثابة «فيول الانتاج» الذي يصنع الدخل القومي، لافتاً الى انّ لبنان خسر حوالى 110 مليارات دولار من مخزون الرأسمال نتيجة الحروب والظروف التي مرّ بها، وما بقي من مخزون لا يكفي لتحقيق انتاجٍ اضافي وتكبير حجم الدخل القومي البالغ اليوم حوالى 55 مليار دولار.
وقال باز: «نحن بحاجة اليوم الى 20 مليار دولار سنوياً كاستثمارات خاصة من اجل زيادة الدخل القومي الى 70 و80 مليار دولار، بينما سيؤمّن مؤتمر «سيدر» 1,5 مليار دولار سنوياً فقط!».
وأضاف: «يبقى الاقتصاد بحاجة الى استثمارات اضافية في القطاع الخاص بقيمة 18,5 مليار دولار سنوياً، لا يمكن تأمينها من خلال تحسين البنية التحتية والاتصالات فقط بل من خلال تأمين مناخ استثماري يرتكز الى تسويتين أساسيتين:
– تسوية بين الدولة اللبنانية و»حزب الله» حول الاستراتيجية الدفاعية، تبعث الطمأنينة للمستثمرين وتحسّن رؤيتهم لمستقبل لبنان وتساعده في تقييم المخاطر.
– تسوية بين شركاء الانتاج (الهيئات الاقتصادية والنقابات العمالية) بالنسبة للتضحيات المطلوبة وكيفية توزيعها بين الطرفين في المرحلة المقبلة، وذلك تحت اشراف الدولة».
وفي الختام، انتقد باز تغييب الفرقاء الاساسيين عن اجتماع بعبدا، اي الهيئات الاقتصادية والنقابات العمالية، وهي الاطراف المعنية مباشرة بخلق النمو وبعوامل الانتاج.
لبنان وسنغافورة
وذكّر باز، انّ الناتج المحلي الاجمالي في لبنان كان يشكّل في العام 1974 ما يعادل 67 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي لسنغافورة. اما اليوم فانّ الدخل القومي لسنغافورة فبلغ العام الماضي 360 مليار دولار، اي انّ الناتج المحلي للبنان اصبح يمثل حوالى 16 في المئة من الناتج المحلي لسنغافورة، علما انّ البلدين متشابهان من حيث الحجم، الشعب، البعد الطائفي، وانعدام الموارد الطبيعية…
ولفت، «لكن الفارق بين البلدين انّ لبنان منشغل بالحرية والديمقراطية، في حين انّ رئيس مجلس وزراء سنغافورة لي كوان يو LKY الذي حكم البلاد خلال 3 عقود، عمل ضمن نظام ما نسمّيه «الاستبداد الحديث» ونجح في تطوير البلاد ورفع الدخل الفردي الى مستويات تفوق مستوى الدخل الفردي في الولايات المتحدة».
وتمنّى باز على رئيس الجمهورية ميشال عون قراءة كتاب Lee Kuan Yew حول قصّة سنغافورة The Singapore Story لأنها خبرة جديرة أن يستأنس بها.
سياسة تثبيت العملة
عن الليرة، قال باز، «انه بحسب النظرية الاقتصادية، لا يجوز ان تستمرّ سياسة تثبيت سعر العملة لاكثر من دورة اقتصادية واحدة والتي تتراوح بين 18 الى 24 شهراً، لأنه لا يقع على عاتق السلطات النقدية في البلاد، معالجة المشاكل البنيوية في الاقتصاد بل انها مسؤولية السلطة التنفيذية. لكن في لبنان، لم تعمد السلطة التنفيذية طوال 20 عاماً من تثبيت سعر العملة، الى معالجة المشاكل البنيوية، وبالتالي لا يمكن لوم حاكم مصرف لبنان اليوم على تلك السياسة بل كان يجب انتقاد هذه السياسة منذ 10 او 15 عاماً حيث كان تغيير تلك السياسة في حينها أقلّ كلفة من اليوم».
واشار الى انّ السياسة النقدية والسياسة المالية يجب ان تكونا مساندتين للسياسة الاقتصادية التي تحدّدها السلطة التنفيذية اي الحكومة، لكن في لبنان ليس هناك من سياسة اقتصادية أو مالية، وبالتالي بات حاكم البنك المركزي وحيداً، باقتصاد منحرف تماماً يعتمد فقط على الاستهلاك والاستيراد.
وشرح باز، انّ اي تغيّر بنسبة 1 في المئة في سعر الصرف سينجم عنه تلقائياً تراجع بنسبة 0,6 الى 0,7 في المئة في القوّة الشرائية للمواطنين، مشدداً على انّ من المتأخّر جدّاً اليوم البحث في اعادة تقييم سعر صرف الليرة، بل انّ الاولويات لمعالجة المسبّبات.
سياسة جذب الودائع
ولفت باز الى أنّ لبنان تلقّى منذ العام 1991 لغاية اليوم، ما قيمته 292 مليار دولار من الرساميل، استُخدمت لتمويل العجز التراكمي في الميزان التجاري بقيمة 274 مليار دولار، بقي منها 15 مليار دولار كفائض خلال تلك الفترة.
وقال: «لو استطعنا توجيه تلك الرساميل نحو الاستثمار المنتج وليس الاستهلاك، لكان الدخل القومي ارتفع الى 150 مليار دولار».
واشار الى انّ المصارف في النتيجة هي مؤسسات تجارية ملتزمة تجاه المساهمين، وبالتالي فانّ جذب الودائع بفوائد مرتفعة هي وسيلة لتحقيق الارباح من خلال مجالات توفّرها الهندسات المالية التي تعوّض كلفة جذب هذه الودائع بالاضافة الى هامش ربح اضافي.