لا يزال خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله يتفاعل، سياسيًا وشعبيًا، خاصةً في ما يتعلق بإعلانه أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله خامنئي هو “إمامنا” (أي جميع الشيعة؟) حاليًا. كلامه ليس مستغربًا، فنصرالله أكد مرارًا وتكرارًا أن حزبه تابع للجمهورية الإسلامية، وليس خطابه بالأمس جديدًا أبدًا، بل المستغرب فعلًا هو ردود الفعل المتفاجئة بكلامه.
الجميع يعلم أن “حزب الله” واقع لا يمكن تخطّيه. فرئيس الجمهورية هو حليف الحزب “التاريخي”، فيما أن رئيس المجلس النيابي هو شقيقه التوأم، أما رئيس مجلس الوزراء فرضخ أخيرًا للواقع، حيث اعترف ضمنيًا بأن أي مقاومة سياسية لـ”حزب الله” تهدد استقرار لبنان الداخلي، ففضّل أن يضع الخلاف الإقليمي جانبًا ويتأقلم مع الواقع الداخلي – إلى حد أن نصرالله نفسه أقرّ برضاه عن الحريري، سواء في مقابلته الأخيرة على قناة “المنار”، أو في تثمينه موقف الحريري بعد دخول مسيّرات إسرائيلية الضاحية الجنوبية.
إذًا، الموقف الرسمي هو لمصلحة “حزب الله” تمامًا. أما داخل السلطة، فيغرّد حزب “القوات اللبنانية” وحيدًا خارج السرب، إذ إن رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط عاد، بعد تصعيد كبير منذ أشهر قليلة، إلى إرساء الوئام بينه وبين “حزب الله”، تُوّج أخيرًا في لقاء بين وفدين من “التقدمي” و”الحزب” برعاية نبيه بري. موقف “القوات” متمايز، حتى داخل مجلس الوزراء، إذ إن صوتًا وحيدًا تكلّم عن وجوب حصر قرار السلم والحرب بيد الدولة بعد الأحداث الأخيرة، وهو وزير الشؤون الاجتماعية ريشار قيومجيان. أما في “المعارضة” المفترضة، فرئيس حزب “الكتائب اللبنانية” النائب سامي الجميّل لا يزال على موقفه المعارض لـ”الحزب”، وزميلاه الياس حنكش ونديم الجميّل في المجلس النيابي كذلك. كما يُلاحظ دائمًا الموقف الثابت لرئيس “حركة الاستقلال” النائب ميشال معوض في الملفات السيادية والرافض لسلاح “حزب الله”.
هذا السرد، الواضح في مضمونه، لا يؤكد سوى حقيقة واحدة: “حزب الله” أصبح الدولة. فالسلطة، بمعظمها، صديقة مقرّبة منه، ويجب ألّا يكون مستغربًا الوصول إلى يوم تفرض فيه الولايات المتحدة عقوبات على لبنان نفسه بسبب ممارسات “حزب الله”، بسبب غياب التمييز. فالحريري، الصديق المقرّب من الولايات المتحدة وإخوتها الأوروبيين، أصبح عاجزًا تمامًا أمام مفترق طريقين: من جهة لا يمكنه أن يفرّط في الاستقرار الداخلي (وهذا مفهوم)، ومن جهة أخرى لا يمكنه أن يفرّط بالدعم الغربي الضروري للبنان، خاصةً في الشقّين المالي والاقتصادي.
الابتزاز الأميركي للبنان مرفوض، إلا أن الابتزاز الإيراني (من خلال “حزب الله”) مرفوض أيضًا. لكن ما الحل بين هذين الابتزازين؟ لا حل فعليًا. فلبنان الرسمي، منذ إعلان دولة لبنان الكبير، بنى علاقة وطيدة مع الغرب: “الأم الحنون” فرنسا بشكل خاص والولايات المتحدة لاحقًا كونها أصبحت اللاعب الأقوى عالميًا. وبالتالي، فرض على نفسه الانضواء تحت شروط هذا المحور، مهما اختلفت مع الوقت. ومن ناحية أخرى، بعد أن كان لبنان الرسمي قبل الحرب الأهلية شبه مغيّب عن الطائفة الشيعية في لبنان، وخلالها في الجنوب مع الاحتلال الإسرائيلي، شرّع لظهور حركة شيعية (بشكل غير مباشر مع “حزب الله”)، تدعمها الجمهورية الإيرانية، التي بدورها فرضت نفسها أمرًا واقعًا على لبنان، ولم يعد بمقدور الدولة تجاهل الواقع هذا، من الناحيتين السياسية والشعبية. وتحرّك الحكومة الذي أدّى إلى اشتعال ما يُعرف بأحداث 7 أيار سنة 2008 أثبت أن “اللعب” مع “الحزب” أصبح كاللعب في النار، ولا مصلحة لأحد إلا بالقبول بـ”الحزب” داخل المعادلة، مهما فعل.
ما يعيشه لبنان اليوم هو نتيجة مسار طويل متعثّر، لم يبنِ خلاله الشعب، ولا السلطة حكمًا، بلدًا يستطيع مواجهة الأزمات، ولا يقع عند أول مطبّ. والصراع الإيراني – الأميركي الحالي، الذي يأخذ من لبنان ساحةً من ساحاته الإقليمية، هو نتيجة حتمية لهذا المسار. وكل ما نأمله، أمام الواقع هذا، هو أن يبقى مسارًا سياسيًا على الأقل، لأن لبنان لم يعد يحمل أي حروب على أرضه.