كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:
لم يكن مستشار الأمن القومي جون بولتون بالشخصية العادية في إدارة دونالد ترامب. فهو من صقور الإدارة الأميركية المتشددين في الملفات الساخنة، لا سيما كوريا الشمالية وأفغانستان وإيران وفنزويلا وروسيا والصين. وإعلان ترامب عن إقالة بولتون طرح تساؤلات عما إذا كانت هذه الخطوة تُعبِّر في جوهرها عن قرار تَحوُّل في السياسة الخارجية الأميركية التي ينتهجها الرئيس الأميركي.
قد يكون من المُبكر الخروج باستنتاجات في هذا الإطار. ما كان طفا على السطح منذ أشهر أن هناك اختلافاً في المقاربات بين الرجلين في كثير من الملفات. في كوريا الشمالية، يدفع بولتون باتجاه توحيد الكوريتين، وفي إيران يذهب في طروحاته إلى ضرورة تغيير النظام، لا سيما وأنه من المؤيدين البارزين لحركة المعارضة الإيرانية التي تُشكّلها «مجاهدي خلق»، وكان من مؤيدي توجيه ردٍ عسكري على إسقاط الدرون الأميركية قرب مضيق هرمز. وفي أفغانستان، يُعارض اتفاق سلام مع حركة طالبان لتأمين انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد وقرار ترامب لقاء قياداتها في «كامب ديفيد».
ما يراه متابعون لدوائر القرار في واشنطن أن الأيام والأسابيع المقبلة من شأنها أن تحدد ما إذا كانت إقالة بولتون تأتي في سياق تبدّل ما في أهداف السياسة الأميركية أو في الاتجاهات التي ستسلكها الإدارة وطريقة تعاطيها. ويمكن بالتالي أن يرسم اختيار ترامب لمن سيخلف بولتون معالم المرحلة المقبلة. هؤلاء يرون أن رحيل رجل من الإدارة الأميركية لا يُغيِّر في السياسة الخارجية، وهو ما علَّق به وزير الخارجية مايك بومبيو على خبر إقالة بولتون.
ثمَّة مَن يعتبر أن خروج بولتون من الإدارة ساهم في إضعاف معسكر الحرب فيها. قد يكون هذا التحليل صحيحاً إلى حد ما، ولكن ما هو أكيد أن مثل هكذا قرار يعود إلى الدولة العميقة. والرئيس الأميركي لم يدخل «البيت الأبيض» بأجندة الحروب العسكرية بل باستخدام سلاح العقوبات وسيلة للمفاوضات لتحقيق الاستراتيجيات التي رسمها حيال الملفات الساخنة. ولا تزال سياسة الدبلوماسية الخشنة مُعتمَدة، وهي التي تعتمد على عدم نشر جنود على الأرض.
وتذهب القراءات إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد خطوات باتجاه تحقيق اختراقات كبرى في عدد من الملفات، أولها الملف الكوري الشمالي الذي يُعوِّل عليه ترامب الذي أصبح هاجسه تسجيل إنجازات ملموسة تؤمِّن له عودة مضمونة إلى البيت الأبيض.
والأمر الذي سيكون تحت المجهر يتعلق بالملف الإيراني والمواجهة الإيرانية – الأميركية، وما ستحمله من انعكاسات وتداعيات على المنطقة. هنا، تبدو الإشارات متّجهة إلى بداية حوار أميركي – إيراني. ولكن الإتيان بإيران إلى طاولة المفاوضات كان على الدوام هو الهدف من وراء الضغوطات القصوى عليها. يبقى المهم، وفق أي أجندة؟ ولمصلحة مَن سيكون التفاوض؟
الأميركيون سبق أن وضعوا قائمة بـ12 شرطاً، في مقدمها: لا قنبلة نووية، لا تطوير لبرنامج الصواريخ البالستية، ووقف إيران لدورها الإقليمي المزعزع للاستقرار. وما تضمنته مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هي تلك النقاط مضافاً إليها نقطة تأمين قروض بقيمة 15 مليار دولار لإيران كبديل للآلية الأوروبية في التعامل مع إيران «إنستكس»، بمعنى أن إيران إذا أتت إلى طاولة المفاوضات، فهي ستأتي تحت ضغط مفاعيل العقوبات الأميركية التي حرمتها من القدرة على تصدير النفط.
ولكن في آن، فإن جلوس إيران إلى طاولة المفاوضات يشمل الشق المتعلق بسلام المنطقة، بدءاً بأمن دول الجوار والساحات الساخنة المشتعلة، وصولاً إلى عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وهذا يعني أن المفاوضات في هذا الجانب ستشمل كل القوى المعنية من أميركيين وإيرانيين وروس وأتراك وعرب. التوقعات بحدوث اختراق على جبهة محادثات السلام ليست كبيرة، وإن كان هناك مراقبون يُعبِّرون عن اعتقادهم بأنه إذا نجح العرب في الصمود في هذه الورقة، فإنه بالإمكان تحقيق نتائج أفضل لصالح المشروع الوطني الفلسطيني، بعدما بدا أن ما يُعرف بـ«صفقة القرن» أصيب بانتكاسة في اختبار المنامة المتعلق بالشق الاقتصادي، الأمر الذي انعكس تريثاً أميركياً في إطلاق الشق السياسي للصفقة.
كل الأنظار متَّجهة إلى نيويورك وما إذا كان اللقاء سيحصل بين ترامب والرئيس الإيراني حسن روحاني على هامش أعمال الجمعية العمومية في الأمم المتحدة، بحيث أن كل الأطراف المعنية، بمن فيها العرب والخليجيون تحديداً، سيعملون على بناء حساباتهم، انطلاقاً من فشله أو نجاحه. الرئيس الأميركي سيُوظف حصول اللقاء لمصلحته، إذ أنه على الدوام يُعلن عن جهوزيته للقاء. كما أنه سيُوظف عدم حدوثه لمصلحته أيضاً، لجهة أن إيران أضاعت الفرصة وسيعمل على مواصلة الضغط.
غير أن الرهان على تحولات جذرية من هنا أو هناك، هو رهان سياسي خاطئ في هذه المرحلة الانتقالية التي تشهدها المنطقة، والتي تعيش باستمرار على تطورات مفاجئة تقلب الحسابات، بما فيها حسابات الحرب واللاحرب، وحسابات الربح والخسارة وكسب الأوراق وخسارتها. ففي المعركة المفتوحة، لا يمكن الركون إلى مواقف نهائية!.