كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
ليست المرة الأولى التي يعلن فيها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أنه يتبع ولاية الفقيه أو أنه جندي في ولاية الفقيه. هذه المسألة لا ترتبط بزمان ومكان وأحداث معينة بل بعقيدة دينية تجد تطبيقاتها في استراتيجة حزب الله في لبنان والمنطقة. ذلك أن السيد حسن كان التزم منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الولي الفقيه الإمام آية الله الخميني بأنه ينتمي إلى هذه الأمة الإسلامية التي يقودها الإمام وأن لبنان ليس إلا جزءا من هذه الأمة وأن حزب الله ليس إلا فيلقا من فيالق جيش ولاية الفقيه. ولكن في ما قاله السيد حسن يوم العاشر من محرم، الموافق العاشر من أيلول، وخلال إحياء مراسم عاشوراء في الضاحية الجنوبية يرتدي صبغة جديدة ونكهة جديدة أكثر تعبيراً عن هذه الحالة.
أهمية ما قاله نصرالله أنه كان مكتوباً وأنه ليس وليد لحظة انفعال بل تعبيراً عن حالة موجودة أراد أن يؤكدها. وأهميته أيضا أنه قاله في هذه المناسبة الدينية التي تعيد نبش القبور بين السنة والشيعة في ما يمكن أن يسميه البعض إيقاظا للفتنة النائمة، على رغم أنها ليست نائمة. وخطورته تكمن أيضا في أنه ألبسه استعادة لمشهد كربلاء وكأنه يعيد رسم أطر جديدة لمعركة قديمة في معركة حاصلة اليوم تنخرط فيها إيران ومعها “حزب الله” وتمتد من اليمن إلى العراق والسعودية والبحرين وسوريا ولبنان وفلسطين.
قال السيد حسن نصرالله: “في يوم الحسين، في يوم عاشوراء، نكرر موقفنا كجزء من محور المقاومة، نحن لسنا على الحياد ولن نكون على الحياد في معركة الحق والباطل وفي معركة الحسين ويزيد. والذين يظنون أن الحرب المفترضة، إن حصلت، ستشكل نهاية محور المقاومة، أقول لهم بقوة وثبات وصدق وإخلاص وعزم وتضحيات هذا المحور، هذه الحرب المفترضة ستشكل نهاية إسرائيل وستشكل نهاية الهيمنة والوجود الأميركي في منطقتنا. هذا المحور. هذا المخيم. هذا المعسكر الذي يقف على رأسه سماحة الإمام القائد السيد الخامنئي، دام ظله الشريف، نحن هنا في لبنان نقول للعالم كله إن إمامنا وقائدنا وسيدنا وعزيزنا وحسيننا في هذا الزمان هو سماحة آية الله العظمى الإمام السيد علي الحسيني الخامنئي، دام ظله، وإن الجمهورية الإسلامية في إيران هي قلب هذا المحور وهي مركزه الأساسي وهي داعمه الأقوى وهي عنوانه وعنفوانه وقوته وحقيقته وجوهره…”.
ليست مسألة عابرة أن يستعيد السيد نصرالله مشهد معسكر أو مخيم الإمام الحسين وأن يحدد المعركة بين الحسين ويزيد وإن كان يعلن الحرب في ما قاله على أميركا وإسرائيل وأن يؤكد أن السيد الخامنئي هو “إمامنا وحسيننا وهو الذي يقف على رأس هذا المعسكر اليوم”. فهل يعتبر بذلك أن “يزيد اليوم” هو محور أميركا وإسرائيل؟ أم أنه يجعل منه غطاء لمحور يزيد الحقيقي الذي يتمثل بالقوى التكفيرية والأصولية السنية التي قاتلها في سوريا وفي العراق وفي لبنان؟
منذ قامت الجمهورية الإسلامية في إيران رسميا في العام 1979 كانت معظم معاركها ضد القوى والدول السنية بالإضافة إلى الإعلان الدائم عن التحضير للحرب ضد إسرائيل لإزالتها من الوجود وضد الشيطان الأكبر الولايات المتحدة الأميركية. لقد قامت عقيدة الجمهورية الإسلامية في إيران على قاعدتين: ولاية الفقيه وتصدير الثورة. نودي بالإمام الخميني قائدا للأمة الإسلامية من دون وضع حدود لهذه الأمة ولذلك وقعت الواقعة مع الدول التي اعتبرت أنها مستهدفة بهذه الثورة ولذلك كانت الحرب الأطول مع العراق بقيادة صدام حسين في العام 1980 بعد عام واحد على عودة الإمام الخميني إلى طهران وقد استمرت حتى العام 1988 ولم تنته إلا باتفاق قال عنه الخميني كأنه تجرع لكأس السم. لم تكن نهاية تلك الحرب نهاية أحلام تصدير الثورة بل محطة استراحة للإنتقال إلى ساحات أخرى.
لقد اعتبر صدام حسين أنه قاتل نيابة عن دول الخليج ولذلك بعد انتهاء الحرب مع إيران ذهب إلى احتلال الكويت في العام 1990 لترد عليه الولايات المتحدة برئاسة جورج بوش الأب بحرب عاصفة الصحراء التي أخرجته من الإمارة الخليجية بانتظار المعركة الفاصلة التي لم تكن مقررة وقتها وحصلت في العام 2003 بعد عامين على غزوة نيويورك التي نفذها 19 انتحاريا من تنظيم القاعدة في 11 أيلول 2001.
بالتزامن مع ولادة الأصولية الشيعية في طهران كانت تولد الأصولية السنية في أفغانستان والعالم الإسلامي السني. في العام 1978 غزت قوات الإتحاد السوفياتي كابول وأسقطت الدولة الأفغانية. منذ ذلك التاريخ بدأ يسطع نجم الجماعات الأصولية السنية التي “خرجت” لقتال النظام الملحد الشيوعي. ومنذ ذلك التاريخ بدأت عملية دعم المقاومة الأفغانية وبدأت تبرز اسماء تنظيمات الأفغان العرب والشيخ الفلسطيني عبدالله عزام الآتي من مخيم جنين وأسامة بن لادن “الخارج” من السعودية للجهاد الأكبر. كان ثمة “جهادان” يولدان من رحمين مختلفين. جهاد ينادي بالخلافة الإسلامية وجهاد يؤمن بولاية الفقيه. جهاد يريد استعادة زمن الخلافة الذي انطوى مع السلطنة العثمانية وجهاد يريد أن يستولد قائدا للأمة الإسلامية وليا فقيها.
الجهاد الأفغاني الذي دعمته الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يسقط الإتحاد السوفياتي تحول بعد سقوطه إلى محاربة من دعمه وضمن هذه الإستراتيجية القاتلة كانت هجمات 11 أيلول التي أيقظت واشنطن على خطر “الخلافة” الجديدة. بعد تلك الأحداث مباشرة وقف جورج بوش الأبن ليعلن في خطاب الأمة في العام نفسه عن استراتيجية الحرب ضد القوى الأصولية وتنظيم “القاعدة” على قاعدة نقل الحرب إلى بلاد الآخرين والحؤول دون تكرار هجمات 11 أيلول، وتحت هذا العنوان كان احتلال أفغانستان والقضاء على دولة طالبان ثم إسقاط حكم صدام حسين في العراق الذي اعتبر بمثابة إسقاط جدار برلين العربي الذي أعاد إحياء الصراع السني الشيعي في المنطقة بعدما كان الشيعة على مدى الأزمان ومنذ موقعة كربلاء قوة قابعة تحت السيطرة. أعطى سقوط طالبان قوة إضافية لطهران الثورة الخيمينية وزادها قوة سقوط صدام حسين الذي أخرج شيعة العراق من مظلة حكمه وأعطاهم الأرجحية في وراثة النظام القديم الذي لم يكن لهم رأي وموقع فيه منذ قيام الملكية في العام 1920 مع الملك الأول فيصل الذي أراد أن تكون مملكته في سوريا ولبنان ولكن إرادة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى جعلتها في بغداد.
في لبنان لم تكن هناك سلطة مقررة للشيعة في نشأة الكيان. لبنان الكبير قام على معادلة أرساها البطريرك الياس الحويك والإستقلال قام على معادلة ثنائية بشارة الخوري الماروني ورياض الصلح السني. صحيح أن الرئيس عادل عسيران كان أحد الوزراء الذين اعتقلتهم سلطة الإنتداب الفرنسي في قلعة راشيا ولكن الشيعة شعروا كأنه لم يكن لهم رأي في ما يحصل وإن كانوا أعطوا رئاسة مجلس النواب ذلك أنه لم يكن لهم بعد كيان ديني مستقل. في العام 1959 عاد السيد موسى الصدر من مدينة قم إلى مسقط رأسه في بلدة شحور قضاء صور بعد نحو أكثر من مئة وخمسين عاما على هجرة قسرية لعائلته هربا من والي عكا العثماني أحمد باشا الجزار ونجح في تأكيد الإستقلالية الشيعية الدينية من خلال تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بينما كان في تلك المرحلة في إيران ينمو التيار الديني بقيادة الإمام الخميني الذي أبعده الشاه خارج إيران.
في 31 آب 1978 بينما كان العقيد الليبي معمر القذافي يخفي الإمام موسى الصدر في ليبيا كان الإمام الخميني يتحضر للعودة إلى طهران في أول شباط 1979 بعد خروج الشاه إلى المنفى في ظل حكومة انتقالية سقطت بعد وصوله بعشرة ايام فقط. إن محور المقاومة الذي يتحدث عنه السيد نصرالله اليوم هو نفسه تقريبا محور المقاومة الذي أخفى الإمام الصدر. الوفود الشيعية الشعبية التي ذهبت إلى سوريا بقيادة حافظ الأسد التي كانت تستضيف مؤتمر الصمود والتصدي للضغط على القادة العرب المجتمعين بالعمل على كشف مصير الإمام الصدر، خاصة أن القمّة حضرها الرئيس الليبي معمّر القذافي في ١٩ أيلول ١٩٧٨، لم تستطع أن تحصل على نتيجة لجهة معرفة المصير الذي لاقاه الصدر. ولا الثورة الإسلامية التي انتصرت في إيران قدمت لهم أجوبة. المفارقة أن الصدر كان من دعاة المقاومة اللبنانية التي أسسها بينما كانت الثورة الإسلامية في طهران مع ولاية الفقيه وكان من ضحاياها قيادات إيرانية نشأت في لبنان إلى جانب موسى الصدر.
لا يقتصر موقف “حزب الله” على مبايعة ولي الفقيه في إيران فقط. المسألة ترتبط أيضا بعقيدة دينية تقوم على أساس الإعتقاد بظهور المهدي. ثمة من يربط هذا الإعتقاد بعلامات الظهور ومن ضمنها حرب ستدور في سوريا. لا يعرف إذا كانت مشاركة حزب الله في الحرب السورية تنطلق من هذا الإعتقاد الديني أم لا ولكن المشاركة حصلت. هناك كانت المواجهة الأساسية بين التكفيريين الذي يؤمنون بعودة الخلافة الإسلامية ويدعون إليها ويعملون لها بدءا من تنظيم القاعدة مرورا بحركة طالبان إلى داعش والنصرة وما يجتمع تحت راياتهم من تنظيمات ترتدي أسماء مختلفة. تلك الحرب التي ربما كانت فرضت على” الحزب” انخرط فيها السيد حسن نصرالله بكل قوته معلنا أنه مستعد شخصياً للذهاب إلى هناك والقتال معلنا أيضا أنه يقاتل الأصيل الاسرائيلي والأميركي عبر الوكيل التكفيري من دون أن يغفل أن هذه الحرب ضد التكفيريين هي أقسى واشد من الحرب ضد إسرائيل أو أنها واجبة أكثر. قبل تلك الحرب لم يكن هناك حديث عن معسكر قائم اليوم بين يزيد وبين الحسين. ولم يكن السيد نصرالله ليعلن أن السيد علي الخامنئي هو حسيننا الذي يقف على رأس هذا المخيم وهذا المعسكر في معركة الحق والباطل وفي معركة الحسين ويزيد. لذلك عندما يتحدث السيد نصرالله عن هذا الموضوع وبهذه الحدة وعندما يقول أنه يتمسك بالقرار 1701 لا تعود الدولة اللبنانية بالنسبة إليه إلا خيمة من هذا المخيم أو هذا المعسكر. ذلك أن معركته تلك هي الأساس وستبقى كذلك اعتقادا منه بأن من الممكن الثأر للحسين وبأن الوقت ربما حان لمثل هذا الإنتصار في محاولة لتصحيح التاريخ والخطأ الذي حصل ذات يوم في موقعة كربلاء على أساس أن يتم رد الإعتبار للحسين وثورة الحسين. ففي المعركة بين الحسين ويزيد أين تكون المواجهة مع محور أميركا وإسرائيل؟
في وصايا الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى عموم الشيعة يقول: “أوصي أبنائي الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وأوطانهم، وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تمييز خاص وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم، لأن المبدأ الأساس في الإسلام… هو وحدة الأمة… وأوصيهم بألا ينجروا وألا يندفعوا وراء كل دعوة تريد أن تميزهم تحت أي ستار من العناوين من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم ومن قبيل كونهم أقلية من الأقليات لها حقوق غير تلك التي تتمتع بها سائر الأقليات. إن هذه الدعوات كانت ولا تزال شراً مطلقاً عادت على الشيعة بأسوأ الظروف…” تلك الوصايا سجلها الشيخ شمس الدين في العام 2000 في باريس حيث كان يتعالج. ولكنها بقيت صرخة تائهة في وادي المشروع الخاص الذي حمله حزب الله. حتى أن السيد محمد حسين فضل الله الذي اعتبر لأوقات طويلة أنه الأب الشرعي لـ”حزب الله” والحاضن لبيئته انتهى إلى إنكار مسألة ولاية الفقيه على الأمة ولكن أيضا من دون أن تلقى مواقفه الصدى المطلوب. المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى تنحل سلطته إلى حدودها الدنيا كأنه تم تغييبه مع مؤسسه الإمام موسى الصدر ليبقى صوت المعركة وحده فوق كل صوت آخر. صوت المعركة بين يزيد والحسين. صوت السيد حسن نصرالله. وليبقى السؤال: أين هو صوت الدولة؟