كتب أحمد الأيوبي في صحيفة “اللواء”:
فاخر «حزب الله» منذ باشر تسويق «إنتصاره» الجديد في الجنوب بأن «الدولة اللبنانية» غطت عمليته بمواقف رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب.. بالتوازي مع تسخير المؤسسات وكل وسائل الإعلام لتظهير أن الدولة إستجارت بـ«حزب الله» للدفاع عن سيادتها فإستجاب بعمليةٍ إنطلقت من داخل الأراضي اللبنانية، محدثة إهتزازاً عنيفاً في ركائز القرار 1701 وفي صورة الدولة والجيش اللبناني.. ليعود السجال والسؤال الكبير: بيد من قرار السلم والحرب وكيف يمكن فعلاً حماية لبنان، وهل يمكن تحقيق الإنقاذ الإقتصادي بدون إستراتيجية وطنية للدفاع؟
خطة إحتواء الدولة
الواضح أنه بالتوازي مع تصاعد العقوبات الأميركية على إيران و«حزب الله» فإن الحزب نفّذ خطة إحتواءٍ وسيطرة على الدولة اللبنانية للتمكن من إستخدام البلد ورقة ضغطٍ ومساومة ميدانية وسياسية في الصراع الدائر بين طهران وواشنطن.
هذه الخطة جرى تنفيذها بشكلٍ «نموذجي» من خلال «تبني» رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة لما أسماه مجلس الدفاع الأعلى «حق اللبنانيين في الدفاع عن سيادتهم» بعد إعتبار ما جرى في الضاحية الجنوبية وقوسايا عدواناً إسرائيلياً يتيح لـ«حزب الله» القيام بالردّ المباشر من داخل الأراضي اللبنانية والقيام بخرقٍ علني للقرار 1701.
انخرط الرؤساء عون وبري والحريري في حملةٍ سياسية سخـّروا فيها مواقع الدولة وجمعوا المجلس الأعلى للدفاع وتحوّلت وسائل الإعلام المرئية إلى إنعكاسٍ لشاشة لقناة المنار، وبات بإمكان أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله أن يعلن أنه أمام موقفٍ «تاريخي» غير مسبوق من التأييد والتغطية من المسؤولين في الدولة، ليختفي الخط الفاصل بين الدولة والحزب، مع ما يعنيه ذلك من أبعادٍ ومخاطرَ محليةٍ وخارجية، وهذا المشهد هو الحصاد الفعلي لقانون الإنتخاب النسبي المشوّه وما تلاه من تسويات.
مواقف التبرير والتغطية.. ومواقف الإعتراض والتحذير
في الخلفية، فإن الرئيس ميشال عون سبق أن قال إن «حزب الله» منخرطٌ في الصراع وقد أصبح جزءاً من أزمة إقليمية دولية، وبات فوق طاقة لبنان معالجة هذا الوضع، مضيفاً أن «مساعدة إيران لـ«حزب الله» تأتي في إطار المقاومة، وهذه المساعدة تحوّلت إلى ما يوصف بالحرب على الإرهاب في سوريا، وقد يطول إلى أمد لا نعرفه».
وفيما قال الرئيس عون أن «الإعتداءين على الضاحية الجنوبية وقوسايا هما بمثابة إعلان حربٍ يتيح اللجوء إلى الحق بالدفاع عن السيادة، دان الرئيس الحريري العدوان على لبنان وكرّر موقف عون في مقابلة مع قناة CNBC الأميركية، فإعتبر أن «حزب الله» ليس مشكلة لبنانية فقط، بل إنه مشكلة إقليمية، وأنه لا يوافق على تصرفات الحزب، لكنه في الوقت نفسه حمّل رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مسؤولية الأزمة.
جعجع: ماذا بقي من هيبة العهد؟
في المقابل، أكد رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن «التزام لبنان بالصراع العربي الإسرائيلي، أمر مسلم به»، وهو «ينطلق من إيماننا بعدالة القضية الفلسطينية من جهة، ومن مبدأ التضامن العربي ووجود لبنان ضمن جامعة الدول العربية من جهة ثانية، لكننا لا نفهم وفق أيّ أسسٍ ومعايير يريد أحد الأطراف اللبنانيين، الزج بلبنان وشعبه في أتون المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران؟ من غير المسموح أن يفرض على اللبنانيين أمر واقع بهذه الخطورة».
وشدد جعجع على أنه «من غير المقبول، أن يوضع لبنان أمام احتمال حرب مدمرة لا ناقة له فيها ولا جمل.. وماذا يبقى أصلا من هيبة الدولة ومن مقومات العهد القوي، إذا كان القرار الاستراتيجي الأول والأخير في يد أطراف خارج مؤسسات الدولة».
المشنوق: مخاطر تجاهل الإستراتيجية الدفاعية
الموقف الأوضح جاء من النائب نهاد المشنوق بإتجاهاتٍ ثلاثة:
الإتجاه الأول: الهوية العربية. تحدّث المشنوق عن ثوابت باتت غائبة عن الخطاب السياسي في لبنان نتيجة التسوية وتداعياتها فأكد «وجود مطامع إسرائيلية ونوايا مبيّتة»، وفي المقابل «لم يخرج أحد ليقول إنّه مع المشروع الأميركي، لكن أيضاً نحن لسنا جزءًا من المشروع الإيراني ولن نكون، بل نحن عربٌ، عربٌ، عرب».
الإتجاه الثاني: رفضُ إنتهاك الدستور وإختزال رئاسة الحكومة بواجهات بأدوار غير دستورية لمجالس ومؤسسات والإعتراض على تداعيات التسوية في بُعدها السيادي مما يؤدي إلى تهميش رئاسة الحكومة لصالح «هرطقات» دستورية، يُرادُ منها تحويل مجالسَ تأتمر برئاسة الوزراء إلى مؤسساتٍ آمرة.
رفض المشنوق «الحديث عن قراراتٍ يتّخذها مجلس الدفاع الأعلى، فهو لا يحقّ له اتّخاذ قرارات، فهذا مخالف للدستور» الذي «يقول إنّ مجلس الدفاع الأعلى ينفّذ قرارات مجلس الوزراء»، رافضاً «استعمال هذه الصيغ لاختصار مجلس الوزراء في هيئات، أيّاً كانت أهميتها وأهميّة الأشخاص الذين يشاركون فيها، لأنّ هذا يشجّع على المزيد من خرق الدستور، «فليس مسموحاً ولا منطقياً ولا مقبولاً أن تتحوّل الدولة، إلى مجرّد قوة إسناد قانوني وشرعي للقرار المستقلّ لـ«حزب الله»، صراحةً وبدون مواربة».
الإتجاه الثالث: خطورة تأجيل طرح الإستراتيجية الدفاعية:
دعا المشنوق إلى «استراتيجية دفاعية تعيد للبنان مواصفات الدولة الطبيعية، بحقوقها في السيادة على أرضها ومقدّراتها، وبواجباتها كدولة مسؤولة أمام النظام الدولي، وليس دولة ساحة أو غرفة عمليات كما هو واقعنا اليوم»، لأنّ «هذا يراكم التبريرات أمام المجتمع الدولي للإعتداءات الإسرائيلية على لبنان» ولأنّ «السلاح ليس عتاداً فقط، بل هو موقفٌ سياسيٌ واستراتيجيّ على صلة بتوازنات المنطقة الدقيقة جداً هذه الأيام»، مشدّداً على ضرورة «الحفاظ على الحدود بين دور الدولة ودور المقاومة، حدود لا يحقّ لأحد أن يلغيها ويجب أن تبقى».
وحذّر المشنوق من حديث الرئيس عون عن «إضافاتٍ طرأت على موضوع الاستراتيجية الدفاعية جعلت مناقشتها أصعب من قبل» فهذا أمرٌ لا يمكن التسليم به «فكلّ يوم هناك ظرف وإضافة وطارىء ومشكلة وعنوان جديد يمكن أن نستعمله كي نؤجّل. لكنّ التأجيل ليس في مصلحة لبنان ولا اللبنانيين، بل على العكس تماماً، سيؤدي أكثر وأكثر إلى تراجع الثقة الدولية بلبنان وتراجع الدفاع الدولي عنه وتراجع التمسّك الدولي والعربي باستقراره».
وأكّد المشنوق أنّنا «قادرون على الدفاع عن أنفسنا ولا نحتاج أحداً، لا نحتاج إيرانيين ولا أميركيين ولا غيرهم، بوجه أيّ عدوان، بتفاهمنا على كيفية الدفاع وعلى أننا كلّنا يد واحدة، وهذا لا يتم لا بالإرغام ولا بالإلزام، بل بالتفاهم على الاستراتيجية الدفاعية» ولا أحد يمكن أن يدّعي للحظة أن الجيش اللبناني بقيادته الحالية إلا أنّه قادر أن يقاوم وأن يردّ العدوان وأن يقوم بدور يحفظ كلّ لبنان وكلّ اللبنانيين».
تفكيك الخطاب السلطوي
تأبيد هيمنة السلاح
يحاول الرئيس عون ومعه الرئيس الحريري إقناع الجميع بإستحالة بحث الإستراتيجية الدفاعية ويوحون بتأبيد الواقع الراهن، مقابل طرحٍ شديد الواقعية طرحه النائب المشنوق، وهو الوصول إلى آلية تحدّد دور الدولة والمقاومة، وتبقي الحدّ الفاصل بينهما، لأن زوال الحدود سيعني إنكشاف لبنان أمام العدوان.
أين السيادة؟
لا يمكن فهم موقف الرئيس عون الذي سلّم بكلّ مفاصل السيادة لـ«حزب الله»، ثم إعتبر القصف الصهيوني لقوسايا إنتهاكاً للسيادة، من دون أن يتحدث عن إنتهاك جماعة أحمد جبريل لسيادة لبنان بسيطرتها على قوسايا ومواقع الناعمة، من دون أن يكون للدولة ولأجهزتها الأمنية أيّ قدرةٍ على السيطرة عليها.
كذلك لا يمكن فهم موقف الرئيس الحريري الذي قال إنه لا يوافق على تصرفات «حزب الله» وهو قد تبنى وجهة نظره وحضر في مجلس الدفاع الأعلى وغطى خرق القرار 1701 تاركاً للحزب أن يقرّر عن لبنان الردّ وطريقته وتوقيته، وإقتصر دوره على تغطية دور الحزب من دون أن يكون له العلم بما بعد الرد.
بل إن «حزب الله» لم يحترم الدولة اللبنانية في تغطيتها لعمليته في الجنوب. فبدل إعتبار العملية رداً على «إعتداء الضاحية»، أعلن الحزب أنه إستهدف آلية صهيونية ثأراً لمقتل إثنين من كوادره في سوريا، فاتحاً المجال لردود ومخاطر مواجهات جديدة.
من الحاكم في لبنان؟
إعتبر الحريري أن «حزب الله» لا يحكم لبنان، بل إنه مع عون هما من يحكمان. وهذا يناقض الواقع الذي يؤكد إمتلاك الحزب مع حلفائه.. أغلبية نيابية ووزارية، بينما الحريري بات يمثل الأقلية، خاصة بعد فرط تحالفه مع الحزب التقدمي الإشتراكي وحزب القوات اللبنانية، وكيف يكون الحريري حاكماً مع إقراره بأن «حزب الله» يتحكم بقرار السلم والحرب لصالح إيران فهو «يسيطر على شرارة أو حرب قد تندلع لدواع إقليمية».
من يضرب دور الجيش؟
الحريري تماهى أيضاً مع مواقف عون عندما قال إنه كرئيس للوزراء، «يعمل على إجراء إصلاحات لتعزيز مؤسسات الدولة بما فيها القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي والبنك المركزي والحكومة المركزية»، والرئيس عون إعتبر الدولة مسؤولة عن حفظ أمن الأفراد والجماعات.
والسؤال: كيف تكون الدولة قادرة على بسط سيادتها ورئيسُ جمهوريتها يستبعد الإستراتيجية الدفاعية، وأحد نوابه وصهره شامل روكز يعتبر أن دور الجيش هو ضبط الأمن الداخلي.. وكيف يمكن ضبط هذا الأمن إذا كانت الأجهزة الشرعية عاجزة عن قمع المعتدين على الجيش وعن إنهاء ظاهرة خطف الأشخاص في البقاع وبعض أحياء الضاحية الجنوبية، حيث تنتشر العصابات وتكثر الإشتباكات بالأسلحة المتوسطة والثقيلة؟!
تجاهل الإستراتيجية الدفاعية
إلا أن الإشارة الأخطر من الحريري جاءت في إشارته إلى «مبادرة الرئيس عون بشأن إطلاق حوار استراتيجي في البلاد، بغية حماية لبنان من أي تدخلات أجنبية وحروب»، لافتا إلى أن بحث الأمور بهدوء حول طاولة الحوار يتطلب وقتا لكن ذلك سيعطي ثماره.
قدّم الحريري صيغة ملغومة لم يتحدث فيها بشكلٍ واضح عن سلاح «حزب الله» بل إنه تحدث عن التدخلات الأجنبية والحروب، ولم يحدّد الهدف بالوصول إلى إستراتيجية دفاعية وطنية ترسم الحدود وتمنع تحويل لبنان مقاطعة إيرانية.
سنوات التيه الإستراتيجي
أخيراً، قال الحريري إن «السنوات الثلاث الأخيرة هي المرة الأولى التي يدير فيها اللبنانيون أنفسهم» وهو بهذا يريد أن يعظّم من شأن حكم الرئيس عون متجاهلاً أنه قدّم لـ«حزب الله» قانون إنتخاب أطاح بالتوازنات وسلّمه الأكثرية ومكنه من ربط مصيره وصراعاته بمصير لبنان فسقطت الحدود بين الدولة والحزب، بل أصبح الحزب هو الحاكم بالسلاح وبالسياسة وبالإعلام.
في هذه السنوات الثلاث سقط لبنان في «إستراتيجية التيه» التي إعتمدها الحريري، فبات البلد بيد حزبٍ يجعل إيران مرجعيته وتراجعت هيبة الدولة فباتت القراراتُ تصدر من البثّ المباشر للسيد حسن نصرالله، بينما رئاسة حكومتها غائرة في غياهب الإجتماعات الرئاسية وجيشـُها يناضل للبقاء جيشاً وطنياً، ورافضاً بقيادة العماد جوزاف عون، محاولات مسؤولين كبار تحويله شرطي سير!