كتبت مرلين وهبة في “الجمهورية”:
من الوادي الذي يشعّ منه نور القداسة شهد بطاركة الشرق، وهم من أهله، انّه يحتضن الايمان المشترك الثمين للكنائس المشرقية الانطاكية السريانية والبيزنطية والارثوذكسية والقبطية والارمنية، وانّ وادي قنوبين هو مركز تراث المسيحيين وحضارتهم، وأقسموا انّهم سيكونون أوفياء للنسّاك وللوحدة المسيحية وللحقيقة.
من حديقة البطاركة عبّر بطاركة الشرق، كل على طريقته، كيف يعيدون اعلاء بناء العمارة الروحية، واقسموا على الاجتهاد في إحياء التراث وعيش روحانية وقداسة الوادي بكل أبعادها، من خلال تأهيل شباب الوطن على روحانية ثمينة قوامها الصلاة والايمان بالارث المجيد ليبقوا رسلاً وشهوداً للرب في هذا الشرق.
ومن «بيت الذاكرة والاعلام» في حديقة البطاركة انطلق المؤتمر الاول للتراث المسيحي، بعدما دشنّ البطريرك الراعي البيت الجديد محاطاً بلفيف من بطاركة الشرق والكهنة والسياسيين والاعلاميين ورئيس وأعضاء «رابطة قنوبين للرسالة والتراث» التي نظمت المؤتمر المستمر على مدى يومين. والجدير ذكره انّ «بيت الذاكرة والاعلام» هو مساحة لقاء علمي ثقافي يوثق ذكرى أعلام من لبنان وسائر المشرق.
بعد الانطلاق من الكرسي البطريركي الى موقع حديقة البطاركة وإزاحة الستارة عن اللوحة التذكارية في «بيت الذاكرة والاعلام»، افتُتح المؤتمر بكلمة رئيس الرابطة نوفل شدراوي، الذي تحدث عن مشاريع الرابطة وأهمية مؤتمر التراث المسيحي المشترك.
وبعده، توالت كلمات البطاركة المشاركين: البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك الارمن الكاثوليك مار غريغوار بدروس العاشر، المتروبوليت تيوكليتوس، بطريرك السريان الارثوذكس مار اغناطيوس افرام الثاني، بطريرك السريان الانطاكي عمار اغناطيوس يوسف الثالث، بطريرك كيليكيا للارمن الارثوذكس الكاثوليكوس مار آرام الاول كيشيشيان، بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس مار يوحنا العاشر اليازجي، والسيد نجيب ساويروس ممثلاً أقباط مصر، وهو المتبرّع بإقامة «بيت الذاكرة والاعلام» بناءً وتجهيزاً. وفي الختام كلمة النائب نعمت افرام ممثلاً رئيس الجمهورية.
ثم ألقى البطريرك الراعي كلمة جاء فيها: «عندما نتكلم عن الوادي المقدّس الموضوع على لائحة التراث العالمي، لا نتحدث فقط عن الآثار والأطلال التي تعود الى الماضي. فالوادي المقدّس، بمختلف اقسامه: من وادي قاديشا الى وادي قنوبين، مروراً بوادي مار أنطونيوس قزحيا وصولاً إلى وادي حمّاطوره، مأهول بأدياره وشعبه. فوادي قنوبين على سبيل المثال يحتضن كرسياً بطريركياً عاش فيه البطاركة الموارنة اربعماية سنة في عهد العثمانيين، وما زالت الحياة الروحية نابضة فيه بعناية الراهبات الانطونيات. وترانا أمام قرية لبنانية لها مختارها وشعبها ورعيتها قائمة، انها رعية قنوبين التي يخدمها الكهنة باستمرار، واليوم كاهنها الخوري حبيب صعب».
وطالب بإنشاء طريق لوادي قنوبين وتعبيدها.
وقال البطريرك افرام الثاني: «في زمن تصارعت فيه كنائسنا حول أمور لاهوتية فلسفية متعلقة بكُنه اللاهوت وطبيعة السيد المسيح ومشيئته، فتبادلت الحرمات وقطعت العلاقات، نرى هنا في هذا الوادي المقدّس رهباناً نسّاكاً قديسين، يوصلون نهارهم بليلهم في الركوع والخشوع والتسبيح. وهكذا قدّموا لنا نموذجاً نحن بأمسّ الحاجة اليه في يومنا هذا، وشرقنا المعذّب مضطرب ووجودنا المسيحي مهدّد وأبناء الكنيسة هائمون على وجوههم يبحثون عن بلد يستقبلهم. نعم، كان رهباننا القديسون في كنائسنا السريانية الأرثوذكسية والمارونية متّحدين بالنسك والتعبّد، ونحن حتى اليوم ما زلنا متباعدين بسبب العقيدة والتاريخ، وكأن بحثنا الفلسفي حول طبيعة المسيح أهم من وحدتنا به – تقدّس اسمه. واذا فكرنا بكيفية التقارب، علينا النظر الى ماضينا لنتعلم منه، لعلّنا نفهم كيف وصلنا الى يومنا هذا، فنحيد عن الأخطاء التي ارتكبناها في مسيرتنا ونؤكّد على ما يجمعنا».
والقى المطران ساكار اشكاريان كلمة كيشيشيان، وجاء فيها: «يعود تاريخ الوجود الارمني في لبنان الى القرن الثامن عشر بسبب رحلات الحج التي كان يقوم بها اباؤنا الى الاراضي المقدسة، ونتيجة الاضطهادات التي كانوا يتعرّضون لها على يد السلطنة العثمانية، وقد استقبلنا الاخوة الموارنة وتقاسمنا معهم لقمة العيش وباتت علاقتنا وصداقتنا راسخة كصلابة جبال ارارات وجبال الارز وقدسية وادي قنوبين، وصليبنا رمز لانتصار المسيح على الموت ورمز للمقاومة التي عاشها الارمن، الذين تمثلوا بيسوع القائم من الموت وقاموا بقيامته، وبات اسم شهدائهم مرتبطاً بإيمانهم المسيحي وحفاظهم على هويتهم الارمنية. والنُصب الموجود في ساحة الكرسي البطريركي في بكركي من العام 2015 بمناسبة يوم الابادة الارمنية، دليل على الاخوّة بين الارمن ووادي قنوبين، وبخاصة مع صرح بكركي وما تمثله من ثقل وموقع وطني بامتياز».
وقال البطريرك اليازجي: «لعلّ الآثار المسيحية الغنية في وادي قنوبين من أثمن الشواهد على أصالة وجود المسيحية في بلادنا منذ بداية عهد البشارة بالإنجيل».
ولفت إلى انّ وادي قنوبين كان خير مركز أنعش المسيحية وألهم رهبناتها، وهو يبقى ميراثاً مسيحياً جامعاً ورسالة انسانية في عالم اليوم. الوادي المقدّس خير تذكير لنا بالحاجة الماسة الى التلاقي الذي يشهد له التراث المسيحي الغني المشترك، والذي هو ارث مسيحي حضاري لا يختص بكنيسة دون سواها. وادي قنوبين دعوة الى قراءة تاريخ المسيحية في منطقتنا بموضوعية وعلمية. دعوة الى تخطّي الإيديولوجيات والنظريات نحو تقصّي الجذور التاريخية القديمة. هو خير نموذج ينبغي السهر للحفاظ عليه في ظل المحاولات الجادة والمتعددة لمحو الأثر التاريخي والتراث المسيحي ولإضعاف وجود المسيحيين في منطقتنا».
ونقل النائب افرام تحية رئيس الجمهورية للمؤتمر، وحرصه على تعميق روابط التلاقي والوحدة، وقال: «في الأيّام الصعبة ونحن في صميمها في لبنان والشرق، نعود إلى قنوبين لنقوى من روحه ونخلق من جديد. لنعترف، كلّنا أقليّات، وأقلّياتنا خلاّقة تفتّش عن الحقيقة. المسيحيّون ضمن هذه الأقليّات هم شهود ليسوع العابر للطوائف من أجل خير الانسان والسلام، ومن هذه الروح نستقي رسالتنا للشرق وللعالم ونشهد للحقيقة على مثال لقاء البطاركة هذا، ها هنا يحيون التراث المشترك. كلّ التحيّة والتقدير».
وبعد تراتيل من التراث القبطي كانت كلمة السيد نجيب ساويروس وجاء فيها: «يشرّفني ويسعدني ان أكون معكم في هذا المكان الرائع من الوادي المقدّس. انها لفرصة جميلة طيبة ومناسبة لتجديد رسوخنا في جذورنا الروحية والثقافية في بلداننا الشرقية، وللعمل معاً لتوسيع المشترك في تراثنا. كان لهذا التراث المشترك دور فاعل كبير في النهضة العربية من خلال مبادرات ثقافية رائدة تبلورت على أيدي أعلام كبار منه. ولقاء اليوم هو امتداد لهذه المسيرة التاريخية المطبوعة بطابع شراكة المسيحيين الكاملة في صناعة تراث هذا الشرق».
تبعها عرض عن «بيت الذاكرة والأعلام». وتقديراً لمبادرة ساويروس قلّده الراعي وسام سيدة قنوبين من الدرجة الأولى. كما عُرض فيلم وادي النساك حول الحياة النسكية المتشابهة بين وادي قنوبين و METEORA.
وفي دردشة لـ«الجمهورية» مع الراعي، وعن رأيه اذا كانت روح الوحدة المسيحية ستنعكس على الاداء السياسي، قال: «هنا رأينا الوحدة على المستوى الكنسي، واذا اردنا من السياسيين الانفتاح قليلاً والخروج من تقوقعهم ومن تسييسهم للطوائف والمذاهب يمكننا التلاقي، ولكن للاسف حتى الساعة لم يستطيعوا، وما زالوا مستمرين بأنانيتهم وتسييسهم للطوائف والمذاهب. ويجب الخروج من هذا المنطق والعودة الى منطق البطريرك الحويك، منطق المواطنة المدنية اللبنانية وليس المواطنة المذهبية. السياسيون والمواطنون اليوم هم مشرذمون ومجزؤون، حاولنا جمعهم على طاولة واحدة فلم يجتمعوا، رجاؤنا ان ينعكس هذا الجو الذي شهدناه اليوم على مستوى الوحدة المسيحية الكنسية على قلوبهم وعلى مستوى الوحدة الوطنية. ونتأمل ذلك بكل شدة، لأنّ السياسيين يعيشون في عالم آخر. خرجوا من المنطق الى حسابات تحاصصية لتحصيل مكاسب آنية. لكننا برغم ذلك بطبيعتنا نحن متفائلون، لأنّ هناك دائماً اناساً ربنا يرسلهم ويحرّكهم ويطرق على ضمائرهم فنحن لسنا من جماعة اليأس».
ووجّهت «الجمهورية» السؤال الى البطريرك اليازجي فأجاب: «نأمل ان ينعكس الجو المسيحي المشترك اليوم على الجو السياسي اللبناني وهذا سعي مبارك. ونحن علينا ان نسعى. وخطوة اليوم هي خطوة مباركة نحاول من خلالها التأثير ايضاً على وحدة المسيحيين والوحدة الداخلية. ونأمل ان تأتي بثمار مباركة ومرجوة».
وأضاف: «نهنئ فخامة الرئيس بعد القرار الذي اتُخذ في الامم المتحدة لإنشاء اكاديمية الانسان للتلاقي والحوار في لبنان. فاذا استطعنا تحقيق ذلك على صعيد العالم أجمع نتمنى ان نحقق ايضاً الوحدة والحوار والتلاقي على مستوى الوطن وعلى المستوى الداخلي ونحن متفائلون لذلك».