كتب ريمون شاكر في صحيفة “الجمهورية”:
جاء إلغاء وزارة الفساد فـي حكومة «إلى العمل» بـمثابة إعلان واضح واعتـراف أنّ القضية أكبـر بكثيـر من وزارة ووزير وبيان وزاري. إنـّها قضية مرضٍ عُضال نـخرَ الـجسم اللبنانـي وفتكَ فيه.
هناك قوانيـن وُضعت منذ الـخمسينات لاجـتــثـاث آفـة الفساد، لـم توضع موضع التـنـفيـذ، ومنها قانون الإثراء غيـر الـمشروع وقانون «مِن أيـن لك هذا»؟ فـمنظومة الفساد التـي رافقت كل العهود والتـي ضـمّت مسؤوليـن فـي السلطة على كل الـمستويات، تصدّت لكل قانون يقطع أرزاقهم ويُضعف ثرواتـهم ونفوذهم.
لـم ينـجح الرئيس فؤاد شهاب فـي القضاء على الفساد، رغم إنشاء مؤسّسات حديـثـة للدولة، مثل مـجلس الـخدمة الـمدنـية والتـفـتـيـش الـمركزي وديوان الـمحاسبة. حاول الرئـيس شارل حلو فـي العام 1965 إقتـحام جدار الفساد، وتفعيل الـمؤسّسات «الإصلاحية الشهابية»، فتـمّ رفع الـحصانة عن الـموظفيـن وإقالة موظفيـن كبار من مناصبهم، بيـنـهم قضاة بارزون ومدراء عامون وسفراء، إلاّ أنّ هذه الـمحاولة الـيـتـيـمة توقفت بعدما إنشغلت الدولة بنكسة حزيران 1967، وبعدها بالإشتباكات الفلسطينية مع الـجيش اللبنانـي والضغوط الداخلية والعربية الـمؤيِّدة لـمنظـمة التـحرير الفلسطينية، والـمطالِبة بتشريع العمل الفدائي فـي جنوب لبنان.
منذ العام 1988، ورئيس الـجمهورية العماد ميشال عون يطالب بـمكافـحة الفساد، وأكّد مراراً أنّ الفساد هو أكبـر أمر يضرّ لبنان، وأنّ فـي هذه الـمعركة لا يوجد حصانة على أحد. وفـي خطاب القسم، أكّد «أنّ الإصلاح الإجتـماعي والإقتصادي لا يـمكن له أن ينـجح إلاّ بإرساء نظام الشفافية عبـر إقرار منظومة القوانيــن التـي تساعد في الوقاية من الفساد وتعيـيـن هيئة لـمكافـحته». لقد مضى على خطاب القَسَم ثلاث سنوات، والناس لا تزال تنتظر إقرار قانون حـماية كاشفي الفساد، وقانون حرّية الوصول إلى الـمعلومات، وتشكيل الـهيئة العليا لـمكافـحة الفساد. فـمن دون إقرار قوانيـن تواكب عمليّة الـحرب على الفساد، وتشكيل هيئة قضائية عليا مستقلّة تُـحاسب كل الذيـن عملوا فـي الشأن العام منذ إنتهاء الـحرب فـي العام 1990 وحتـى اليوم، وتسألـهم من أين لكم هذا؟ ليس هناك إمكانية لـمعالـجة الوضع الإقتصادي والـمالـي.
يقول السيد حسن نصر الله : «إنّ إستعادة الثقة شرط أساسي فـي الـمعالـجة الـمالية، كما أنّ إستـرداد الأموال الـمنهوبة يـجب أن يكون فـي مقدّمة الـخيارات لـمعالـجة الوضع الإقتصادي».
صحيح، من دون إستعادة الثقة بالدولة ومؤسّساتـها، وبـنزاهة قضائـها ومسؤوليـها، لا فائدة من أيّ موازنة. والثقة تبدأ، عندما يبدأ القضاء بـمحاسبة الـمقرّبـيــن من السلطة قبل الأبعديـن، والـحلفاء قبل الأخصام. فالفاسدون فـي كل العهود ينقلون «البارودة» من كتف إلى كتف، ويـحتـمون بالعهد وبرجال السلطة كي ينفذوا بفسادهم وسرقاتـهم.
الإصلاح الـحقيقي يبدأ بـهؤلاء الـمتزلّفيـن، وبأصدقاء الـحاشية القابضة على السلطة. فاستعادة الأموال الـمنهوبة من الدولة من هؤلاء قبل غيـرهم، تعيد الثقة إلى الـمواطنيـن والـمستثمريـن والدول الـمانـحة.
إنّ مشروع موازنة 2020 الذي حدّد نسبة عجز مرتقبة إلى الناتـج الـمحلي الإجـمالـي عند 5.7 فـي الـمئة، جاء خالياً من أيّ تدابـيـر جديدة تُـتـرجـم حال الطوارئ التـي تـمّ الإعلان عنها بعد إجتماع بعبدا الإقتصادي والـمالـي.
وقد لا يـكون هذا الـمشروع كافياً فـي حدّ ذاته لتـحسيـن ثقة الـمودعيـن والـمستثمريـن. فالإختبار الرئيسي لـموازنة 2020 يتـمثّل فـي ما إذا كانت تستـطيع تعزيز ثقة السوق وجذب تدفّقات جديدة من العملة الصعبة التـي يـحتاجـها البلد. حتـى الآن، لا توجد دلائل تُذكر على ذلك. فدول «سيدر» غيـر متـحمّسة، وصندوق النقد الدولـي لن يقدّم أيّ مساعدة للبنان ما لـم تأخذ الـحكومة الإجراءات اللازمة، ومنها زيادة الـTVA والزيادة على البـنزيـن.
إذا لـم تُقدِم الـحكومة على إحياء ملفّ مكافــحة الفساد والتعامل معه بـجدّية، وإصلاح قطاع الكهرباء، وإلغاء «الصناديق الطائفية» الـمستقلّة، ولـم تـخفّض حجم القطاع العام، ولـم توقف عقود آلاف الـموظفيـن الذيـن تـمّ إدخالـهم إلى الدولة بطريقة مـخالفة للقانون، فإنّ كل الـمحاولات لـخفض الـعجز فـي الـموازنة ستبوء بالفشل. أمّا فوائد الديـن العام، التـي تُشكّل ثلث عـجز الـموازنة، لا شيء يـخفّضها سوى الإصلاحات الـحقيقية والثقة بالإجراءات التـي تـتخذها الـحكومة.
يقول الإمام الغزالـي: «إنـما فسدت الرعية بفساد الـملوك، وفساد الـملوك بفساد العلماء، فلولا القضاة السّوء والعلماء السّوء، لقلَّ فساد الـملوك خوفاً من إنكارهم».