كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
تتعرّض «القوات اللبنانية» لحملة سياسية-إعلامية ترمي إلى إظهارها أنها بلا حلفاء ولا تمتهن أو تحترف الممارسة السياسية على غرار القوى الأخرى. علّقت التسوية الرئاسية-السياسية الانقسام العمودي بين 8 و14 آذار رسمياً، على رغم أنه كان عُلِّق عملياً إبان حكومة الرئيس تمام سلام آخر حكومات عهد الرئيس ميشال سليمان، وتعليق الانقسام أدّى إلى فتح الحياة السياسية التي كانت مقفلة والتقاطعات محصورة ضمن الفريق الواحد.
وتعليق الانقسام لا يعني أنه عولج وتبدّد، لأنّ جوهر الخلاف ما زال هو نفسه، إنما يعني أنّ إمكانية الحسم لدى أيٍّ من الفريقين غيرُ متوافرة، وأنّ انعكاسات مواصلة الصراع ستكون وخيمة على البلد، وأنّ الحلّ لن يكون من باب الحوار الداخلي ولا المواجهة الداخلية، بل من خلال ما ستُفضي إليه المواجهة الأميركية-الإيرانية.
وأدّى تعليق الانقسام إلى فتح العلاقات السياسية تحت سقف المؤسسات الدستورية وضمن احتفاظ كل فريق بثوابته الوطنية ومسلماته المبدئية، وسبق التسوية «اتفاق معراب» الذي ساهم مساهمة أساسية في انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وانتقل الحديث مع التسوية وفي الحكومة الأولى من العهد تحديداً إلى الحديث عن العلاقة بين «القوات» و»حزب الله» باعتبار أنّ العلاقة مع القوى الأخرى إما تحالفية أو طبيعية.
وبقيت العلاقة بين «القوات» و»الحزب» تحت سقف المؤسسات بقناعة الطرفين ربطاً بالهوّة الاستراتيجية التي تفصل بينهما حيال النظرة إلى لبنان ودوره، فيما علاقة «القوات» بالقوى الأخرى كانت تقترب وتبتعد تبعاً للملفات المطروحة والمثارة، والتي صنّفتها ضمن 3 مستويات أساسية: التحالف مع القوى السيادية حفاظاً على التوازن السيادي الذي نشأ مع انتفاضة الاستقلال وصولاً إلى الدولة السيدة على كامل أرضها، التقاطع مع «التيار الوطني الحر» حفاظاً على التوازن الميثاقي، الأمر الذي تحقق من خلال قانون الانتخاب الحالي، ولولا هذا التقاطع لكان الخلل الميثاقي الذي نشأ مع الوصاية السورية وبسببها ما زال على حاله، والتقاطع مع كل فريق يسعى إلى بناء دولة فعلية وحقيقية.
وما يجدر ذكره أنّ «الحماسة» للحرب في مطلع الأحداث كانت مرتفعة إلى أن بدأت تتراجع وتتلاشى، والأمر نفسه ينطبق على الانقسام بين 8 و14 آذار الذي وصل إلى أوجّه إلى أن بدأ بالتراجع التدريجي في اتجاه الأولويات الحياتية، خصوصاً أنّ أفق هذا الصراع مفتوحة، والناس «بدّا تعيش»، وبالتالي ساهم المواطن بفرض إيقاعه وقلب الأولويات الداخلية، وهذا ما يفسِّر ظهور حالة «الحراك الشعبي»، وهذا الوضع انسحب أيضاً على بيئة «حزب الله» التي عبّرت عن امتعاضها وتأفّفها من الأوضاع المعيشية، وأنه إذا كان تأييدها لخيار المقاومة مسألة محسومة، إلّا أنّ للمقاومة مقومات ومتطلبات حياتية لم تعد متوافرة، وكلام السيد حسن نصرالله المطوَّل عن الإزدهار في الجنوب لم يكن من باب الكلام للكلام، إنما من أجل تطمين الجنوبيين المتخوّفين من أيّ حرب تعيدهم إلى عام 2006 من أنّ الحزب حريص أكثر منهم على هذه الحالة.
فالتركيز على الجانب الإصلاحي فرض إيقاعه بقوة، وتحوُّل «القوات» إلى رأس حربة في هذه المواجهة أدّى إلى تعزيز رصيدها داخل كل البيئات اللبنانية، كما أدّى إلى كسر الحواجز أمام فئة واسعة من الرأي العام الذي كان يقف ضدها بسبب موقفها السيادي، ومن الطبيعي أنه عندما تضع «القوات» الأولويات السيادية والميثاقية والإصلاحية على قدم وساق أن تدخل في مواجهات عدة ومتنوّعة تبعاً للملف المطروح، خصوصاً أنّ «القوات» لم ترفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، هذا الشعار بالذات الذي جعل «حزب الله» يتراجع خطوات عدة إلى الوراء في مواجهته الإصلاحية التي كان وضعها بمصاف المواجهة مع إسرائيل.
وإذا كانت الأولوية السيادية تعلو ولا يُعلى عليها، إلّا أنّ المرحلة التي دخلتها البلاد مع التسوية السياسية حولّت الأولوية نحو بناء الدولة، وهذا العنوان في حال تحقق كفيل بتوسيع المساحات المشتركة بين اللبنانيين، فضلاً عن وجود خطر حقيقي يتهدد الدولة والاقتصاد في حال استمرّ التعامل بالأسلوب نفسه.
وحددت «القوات» في خطابها السنوي بمناسبة قداس الشهداء في 1 أيلول شعار المرحلة القائم على التقاطع مع كل مَن يتقاطع معها سيادياً وإصلاحياً، وأكدت أنّ رفضها المساومة في الشأن السيادي ينسحب على الشأن الإصلاحي، وأنها ستسمّي الأمور بأسمائها، وتبعاً لذلك يمكن التوقف أمام خريطة طريق خماسية:
أولاً، يُخطئ مَن يظنّ أو يراهن أنّ التباين في اليوميات السياسية سيحوِّل هذه التباينات إلى خلاف فقطيعة مع «المستقبل» و»الإشتراكي»، لأنّ انفراط عقد هذا التحالف بخطه الاستراتيجي يعني انهيار التوازن واستفراد قوى المثلّث للقضاء عليها، وبالتالي العلاقة بين المكوّنات الثلاثة ليست حاجة قواتية فقط او إشتراكية فقط او مستقبلية فقط، إنما هي حاجة مشتركة.
ثانياً، لا تستخدم «القوات» لغة المزايدة او تسجيل النقاط شعبياً، إنما تريد أن تعمّم ممارسة مختلفة للشأن العام تجنيباً للانهيار، وبغية أن يستعيد المواطن ثقته بالدولة، وبالتالي لن تفرِّط بهذه الممارسة تحت أيّ عنوان، وعلى القوى الأخرى تفهُّم ذلك، فعدم تصويتها على الموازنة مثلاً أدّى إلى تباين مع الرئيس سعد الحريري، ولكنّ التطورات اللاحقة أثبتت صحة وجهة نظرها من الاجتماع الاقتصادي في بعبدا إلى انتقادات السفير بيار دوكان، وبالتالي ضرورة الإقلاع عن سياسة الترقيع التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.
ثالثاً، «القوات» قوة أساسية وزارية ونيابية وشعبية ولها علاقاتها الداخلية والخارجية، وبالتالي يصعب تجاوزها، بل أكثر من فريق سيضطر تبعاً للظرف واللحظة والملف إلى التقاطع معها كونها موجودة وتمثل حاجة سياسية، ولذلك سيتواصل تركيزها على تعزيز حضورها الشعبي والنيابي والوزاري.
رابعاً، وصلت علاقة الوزير جبران باسيل بمعظم القوى السياسية في مرحلة معيّنة إلى ما دون الصفر قبل أن يعيد النظر في سياسته، فيما علاقة «القوات» بمعظم القوى السياسية ثابتة، وتقدّمها وتراجعها يبقيان ضمن حدود معيّنة تبعاً لنظرتها الى كل فريق ووفق الملف المطروح، فحادثة البساتين مثلاً استدعت الاستنفار السياسي-السيادي منعاً لكسر فريق تمهيداً لكسر الآخرين ووضع اليد على البلد.
خامساً، لم يصل الوضع في لبنان إلى ما وصل إليه من انهيار على أكثر من مستوى إلّا بفعل الكلام على «الشطارة» السياسية، على الطريقة اللبنانية، في غياب المبدئية والأخلاق السياسية، فيما معيار الشطارة يجب أن يكون التمسّك بالثوابت والمسلمات وليس التقلُّب خدمة للمصالح الخاصة على طريقة «اليد يلي ما فيك عليها، بوسها وادعي عليها بالكسر»، وبالتالي على الرأي العام أن يحسم موقفه مع الشطارة التي أوصلته الى الانهيار او مع المبدئية التي تشكل وحدها المدخل لقيام الدولة الفعلية.