كتب عبد الكافي الصمد في صحيفة “الأخبار”:
بركة مياه لريّ المزروعات في جرود بقاعصفرين (الضنية)، رفعها «النزاع» بين بشرّي والضنية إلى مرتبة «بركة عالمية». منذ شهر، والنفوس محقونة بين المنطقتين… بسبب «قساطل» جرّ مياه. من يراقب تطور الأحداث والسقوف المرتفعة، كاد يشعر بأنّ الحرب الكونية ستنطلق من محيط «تلة سمارة». بيانات سياسية، وإعلان حالة طوارئ عامة، واستنفارات أمنية، وتدخّل الرؤساء الثلاثة، ومع إبقاء الاجتماعات مفتوحة… واتجاه إلى ترسيم الحدود بين القضاءين. بقي أن يطالب أحد فريقي النزاع بتدويل الأزمة!
هي بركة مياه اصطناعية، تُريد بلدية بقاعصفرين (قضاء الضنية) إنشاءها في القرنة السوداء. الأعمال يُنفذها «المشروع الأخضر» (التابع لوزارة الزراعة) في موقع على «تلّة سمارة»، النقطة المُتنازع عليها عقارياً بين بشرّي والضنية. في 22 آب الماضي، أُعطي المتعهد إذن المباشرة بالأعمال، ما أدّى إلى إعادة تفجّر الخلاف بين بلدتَي بقاعصفرين وبشرّي. فالأولى ترى أنّ المشروع سيُسهم، في حال إنجازه، بإنهاء معاناة أكثر من ألفي شخص، في جرد النجاص (جرود بقاعصفرين) يعتاشون من قطاع الزراعة. في حين أنّ الاعتراض في بشرّي قائم على أنّ إنشاء البركة مُخالف للقوانين، أولاً لأنّها تقع ضمن النطاق العقاري لقضاء بشرّي، وثانياً لأنّ أعمال الحفر تتمّ على علو 2650 متراً (في الجهة المقابلة، إصرار على أنّ أعمال الحفر لا تتخطى ارتفاع الـ 2200 متر) في ظلّ وجود قرار صادر سنة 1998 يمنع أي أعمال في المناطق التي ترتفع أكثر من 2400 متر عن سطح البحر، وثالثاً يُذكّرون بأنّ مجلس الوزراء أجاز عام 2010 إنشاء «بركة العطارة» في وادي الدبّة، وصُرفت لها الأموال اللازمة، لكنّ بقاعصفرين نقلت مكان البركة إلى «تلّة سمارة». بحسب بلدية بشرّي، «يتحجّجون في بقاعصفرين بأنّها بركة ترابية لتخزين المياه. الأكيد أنّه لا يُمكن تخزين المياه داخل التراب، وسيؤثرون على خزان المياه الجوفية لأقضية بشرّي وزغرتا والضنية».
الخلافات على جرّ المياه بين القضاءين قديمة، نزاع مُستمر منذ قرابة العشر سنوات. تجرّ بقاعصفرين المياه من القرنة السوداء، لتعويض النقص لديها، فالمنطقة تخلو كلّياً من الينابيع، واعتمد القاطنون فيها صيفاً على مدّ أنابيب بلاستيكية باتجاه «القرنة»، وتخزين مياه «كومات» الثلوج في برك ترابية صغيرة، مُغلفة من الداخل بالنايلون، استُخدمت لرّي المزروعات. لكنّ جرّ المياه لم يكن يمرّ من دون مشاكل بين بقاعصفرين وبشرّي، حيث كان بعض الأهالي هناك يعمدون إلى تقطيع أنابيب الجرّ، وفي إحدى المرات رُميت قنبلة على جرافة استقدمها أحد أبناء الضنية للقيام بأعمال حفر. يقول أحد المسؤولين من تيار المستقبل في الضنية إنّ «المياه التي نقوم بتخزينها في الجرد هي من كومات الثلوج، ولا تؤثر على المياه الجوفية».
كان يفصل في الاشتباكات الثنائية السابقة، مديرية المخابرات في الجيش اللبناني ــــ الشمال، وآخر اتفاق قضى بإبقاء مدّ أربعة نباريش مياه من ثلاجات القرنة السوداء، من أصل عشرة، بشكل مؤقت إلى حين انتهاء المواسم الزراعية الصيفية، والانتهاء من العمل في بركة العطارة في جرد بقاعصفرين. الكلام في بلدية بشرّي أنّه «في السنوات السابقة، كنا نتساهل بجرّ المياه من أربعة نباريش، بسبب نقص المياه لديهم. إلا أنّ من غير المقبول المباشرة بأعمال الحفر في منطقة «حقل سمارة» المُتنازع عليها». اكتشف الأمر مزارعون من بشرّي، أبلغوا رئيس حركة المقدمين ويليام طوق (خصم القوات اللبنانية)، الذي أصدر بياناً وبدأ العمل مع رئاسة الجمهورية والدوائر المعنية لإيقاف الأعمال. بعد ذلك، أطلق نائبا بشرّي ستريدا طوق وجوزف إسحاق حركتهما، «ونحن في البلدية بدأنا مراسلة الإدارات المعنية منذ بداية أيلول». يُعلّق المسؤول المستقبليّ من الضنية بالقول إنّ «السقوف ارتفعت بسبب التنافس السياسي في بشرّي بين ويليام طوق والقوات اللبنانية. فحين اعترض الأول، أُجبرت القوات على مجاراته».
كل فريق من الفريقين يسوّق حججاً تدعم موقفه من النزاع. رئيس بلدية بشري فريدي كيروز أكّد أن موقع البركة «يقع ضمن نطاق بلدية بشري، وفق الوثائق والمستندات التي بحوزتنا، وهي موضع نزاع جغرافي مع الجوار بانتظار ترسيم الحدود النهائية من قبل الدوائر المعنية». بالمقابل، كانت الأجواء في الضنية تزداد غلياناً، سياسياً وشعبياً، «فالقضية ليست نزاعاً بيننا وبين أهالي بشري، بل اعتداء منهم علينا، لأنّ الأرض لنا ونرفض التنازل عنها»، يقول رئيس بلدية بقاعصفرين علي كنج. يستند في كلامه إلى «خرائط الجيش التي تثبت أن موقع القرنة السوداء يقع ضمن الضنية، ويبعد قرابة 4 كيلومترات عن حدود بشري، والثاني قرار أصدره أمين السجل العقاري في الشمال، في 12 آب 2014، بطلب من محافظ الشمال رمزي نهرا، الذي طلب منه تحديد أراضي كلتا المنطقتين المتنازع عليها، وهو أكد في قراره أن القرنة السوداء تقع في نطاق بقاعصفرين العقاري». في السياق نفسه، يلفت المهندس خضر الآغا، إلى وجود «خريطة رسمية نشرت أيام الانتداب الفرنسي عام 1938، تُثبت أن القرنة السوداء تقع ضمن الضنية. لكن هناك خرائط عقارية جديدة جرى التلاعب بها، تُبين أن مساحة كبيرة من المنطقة المحيطة بالقرنة السوداء تُقدر بنحو 13 مليون متر مربع جرى ضمّها إلى بشري».
ارتفعت السقوف بسبب التنافس السياسي بين ويليام طوق والقوات اللبنانية
آخر التطورات، «صدور قرار تمهيدي عن قاضي الأمور المستعجلة بوقف الأعمال في الموقع، بعدما رفعنا دعوى عاجلة ضدّ وزارة الزراعة ومصلحة المشروع الأخضر وبلدية بقاعصفرين والشركات المتعهدة»، بحسب بلدية بشرّي. لن يقبل أهالي الضنية ذلك، فقد علمت «الأخبار» بوجود «توجه لدى أهالي جرد النجاص وفاعليات بقاعصفرين والضنية للتحرك والعصيان وتنفيذ اعتصام حاشد في موقع البركة، لإعادة العمل بها ولو بالقوة».
الخطوة الثانية التي تقول البلدية إنّها ستقوم بها، هي استكمال «معركة ترسيم الحدود. نقوم بتحضير ملفاتنا التي تتضمن حججاً قانونية عمرها أكثر من مئة سنة، تُثبت أنّ القرنة السوداء تابعة لبلدية بشرّي». ترسيم الحدود هو واحد من الاقتراحات الثلاثة التي قدّمها ويليام طوق، وطلب من البلدية عقد اجتماعات لفاعليات القضاء من أجل توحيد الموقف. بناءً على ذلك، دعا فريدي كيروز إلى اجتماع في البلدية، حضرته ستريدا طوق، والمحامي طوني الشدياق مُمثلاً شباب بشرّي وويليام طوق، وعدد من فاعليات القضاء. جرى الاتفاق على متابعة التنسيق توصلاً إلى تحقيق «استمرار وقف الأعمال بالموقع، وترسيم الحدود بناءً على الوثائق التاريخية التي استحصلنا على جزء أساسي منها، وإعلان الموقع كمحمية بيئية طبيعية تُمنع فيها الأشغال حتى بعد ترسيم الحدود. وشدّدنا على أنّ المسألة ليست سوء تفاهم، بل تعدٍّ واضح علينا نُعالجه عبر القانون»، بحسب مصادر ويليام طوق، الذي التقى أمس الوزير السابق بيار رفول، موفداً من الرئيس ميشال عون، «للتباحث في آلية وضع الاقتراح المقدم لفخامة الرئيس من قبلنا وشباب بشري بتاريخ 16/9/2019 موضع التنفيذ العملي بما يفضي إلى تثبيت وقف الأعمال على نحو نهائي في الموقع المذكور لحين إتمام عملية ترسيم الحدود أصولاً بين قضاءي الضنية وبشري».