كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
في لبنان «حزب الله» فقط لديه أولويات إقليمية، أمّا الآخرون، بمعظمهم، فمنشغلون بالحصص: مَن سيتحكّم أو يستفيد من مليارات الكهرباء والنفايات والاتصالات وتلزيمات «سيدر»، وحتى الحشيشة التي طالبت «ماكنزي» بتشريع زراعتها؟ لكنّ الأهم، مَن سيتحكم أو يستفيد من نحو 300 مليار دولار موعودة من الغاز والنفط، في السنوات العشر المقبلة، وما بعدها؟
قبل عامين، قدّرت إدارة معلومات الطاقة الأميركية، أنّ احتياطات الغاز والنفط التي سيستثمرها لبنان في السنوات العشرين المقبلة (2020 – 2039) تُقارب قيمتها الـ164 مليار دولار. لكنّ تقديرات بعض الخبراء تقول إنّ الرقم أعلى بكثير. فهو ما بين 250 ملياراً و300. والبعض يذهب إلى رقم 500 مليار، تبعاً لتطور الأسعار في حينه.
إذاً، هناك مئات المليارات سيبدأ لبنان بالحصول عليها في السنوات القليلة المقبلة، تقريباً مع نهايات العهد الحالي وبداية العهد المقبل. ومع أنّ هذا العهد قد وصل إلى مشارف الانهيار، فإنّ الطاقم المُمسك بالسلطة ما زال يعتقد أنّ هناك إرادة دولية لمنع سقوط لبنان. وهو يراهن على أنّ هناك مليارات لا بد من أن تأتي من «سيدر»، على رغم عدم اقتناع الجهات المانحة بجدية التدابير التي تتخذها الحكومة، كالضرائب والكهرباء والاتصالات والجبايات والحدّ من التهرّب الضريبي والتهريب. كما أنّ هناك خطوة تنتظر التشريع في وقت لاحق، وهي زراعة الحشيشة للغايات الطبية، وقد تَدرُّ مليار دولار سنوياً.
كل هذه الموارد والأبواب تبدو في كفّة، والغاز والنفط في كفّة أخرى. والهدف الأول لدى الجميع هو السيطرة على ما يقارب 13 مليار دولار، والتي من المُنتظر أن تتدفق سنوياً من الطاقة النفطية في البحر، أي أكثر من مليار دولار شهرياً على مدى سنوات (نحو 8,5 مليارات من الغاز و4,5 مليارات من النفط سنوياً).
ويعني ذلك خصوصاً: مَن سيكون في موقع السلطة في السنوات الـ9 المقبلة، أي في النصف الثاني من عهد عون وفي السنوات الـ6 من العهد المقبل؟ فغالبية اللاعبين يخططون لمستقبلهم بدقّة.
هنا يمكن إدراك التنافس الشَرس للامساك بموقع رئاسة الجمهورية المقبلة، بين الوزير جبران باسيل ومنافسيه. وكذلك، «اقتناع» الرئيس سعد الحريري المُطلق بمستلزمات التسوية الحالية مع «حزب الله» على طريقة: لنا الأمن والاستراتيجية وأنتم تَصرَّفوا بالباقي! أمّا الثنائي الشيعي فيضمن حضوره في أي حال، وهو يُمسك خصوصاً بورقة قانون الانتخاب، أي بتركيب السلطة برمّتها. وهذه هي الورقة الأقوى على الأرجح.
والواضح أنّ قوى السلطة لا تتعامل بجدّية مع ما تطلبه الجهات المانحة من خطوات إصلاحية، لأنها مطمئنة إلى أنّ المجتمع الدولي لن يتخلى عن لبنان ويدعه يسقط. وهذه القوى تستغلّ الحرص الدولي على لبنان لتحافظ على المكاسب التي تحققها بفضل الفساد.
ولذلك، يُبدي خبير بارز تخوّفه من دخول لبنان في وضع أكثر سوءاً في المراحل المقبلة، خصوصاً إذا توافر المال من خلال المساعدات أو الديون الجديدة أو النفط. ويقول: عندما يبدأ استثمار النفط والغاز، وتبدأ السلطة في تَلقّي المليارات، ستتحوّل تلقائياً إلى سلطة أكثر استبداداً. وملامح الديموقراطية الباقية في البلد سوف تتبدَّد تدريجاً، فالقاعدة العلمية في علوم الاقتصاد والاجتماع والسياسة هي الآتية:
عندما لا تكون الأموال التي تتدفق على المجتمع متأتية عن إنتاج الدورة الاقتصادية الطبيعي، أي العمل، يرتفع مستوى الاستبداد وتتراجع الديموقراطية، لأنّ الحاكم يشعر بأنه لم يعد في حاجة إلى الشعب في الدورة الاقتصادية، وعلى العكس يَتكوَّن لديه شعور بالفوقية على الشعب، لأنّ المال الذي يتدفق على هذا الشعب لا يتعب لإنتاجه.
وللدلالة إلى صحّة هذه القاعدة، يمكن النظر إلى السلطات التي تدير بعض الدول العربية وأفريقيا، حيث القاسم المشترك هو كثافة الموارد الطبيعية… في مقابل ديموقراطية تحت الصفر!
وسيكون الأفضل لمستقبل لبنان وكيانه ونظامه وأجياله ألّا يكون الطاقم السياسي الحالي هو الذي سيدير أموال النفط والغاز، ولو كان مقرراً لها أن توضَع في صندوق سيادي. ومَن يضمن أساساً سلامة العمل في صندوق سيتقاتل هذا الطاقم لتشكيله من محسوبين، وبالمحاصصة المعروفة؟
فالمليارات الموعودة من الغاز والنفط في خطر، والطاقم الفاسد الذي أبادَ المليارات على البرّ اللبناني سيُبيد المليارات الموعودة في البحر على الأرجح، وكل الدلائل توحي أنه سيفعلها.
ولذلك، يعتقد العديد من الخبراء أنّ الافضل بقاء هذه الثروة الوطنية مخبّأة في باطن الأرض، إلى أن تأتي إلى السلطة طبقة تتميَّز بالشفافية وتخضع للمراقبة والمحاسبة وتؤمن بالديموقراطية وتَداول السلطة ديموقراطياً.
فماذا سينفع لبنان إذا استخرج، على مدى السنوات العشرين المقبلة، 300 مليار دولار أو أكثر أو أقل، من دون أن تتوافر القدرة السليمة على إدارة هذه المليارات؟
على الأرجح، ستذوب الثروة بين ديون الـ100 مليار، وستحصل الشركات والجهات الأجنبية على حصتها. والباقي، الذي سيدخل الصندوق السيادي، مصيره ليس مضموناً.
إنّ المراهنة على الإنقاذ الاقتصادي بالنفط والغاز والمساعدات (على ندرتها)، من دون إصلاح حقيقي للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، عواقبها خطرة جداً. فهي ستكرّس الخلل، وتمنح الطاقم الفاسد عناصر القوة ليستمر في نهجه التدميري، مُتجاهلاً قواعد الاقتصاد الحقيقي المُنتِج.
ستكون العواقب مشابهة لتلك المتأتية عن إقرار سلسلة الرتب والرواتب، فقد مُنِحت الحقوق للإدارة كلها، بما فيها من فاسدين وصالحين، فوقعَ المحظور. وكان الأحرى إصلاح الإدارة أولاً، وتنظيفها، ثم منح السلسلة للصالحين من دون سواهم.
المشكلة هي أنّ الطاقم السياسي يعمل فقط لتحصيل المال «السريع والسهل» لنفسه، و»بعد حماري لا ينبت حشيش»! لكنّ الحشيشة ستنبت على الأرجح، إذا كان حمار السياسيين سيرعاها. والكارثة إذا خرجت عن المراقبة، وفتحت لها معابر أخرى غير شرعية، في البلد وعلى الحدود وخارجها!